الحـرفي خـيري عبد الحـمـيد لـ “الشعـب”:

القشابية.. رمز للثورةّ التّحريرية ودرع المجاهديــن

بورتريه: موسى دباب

مع حلول فصل الشتاء يزداد الطلب على القشابية بشكل كبير، حيث تجذب اهتمام مختلف شرائح المجتمع، وتحتل مكانة خاصة في قلوب عشاقها. ومن بين هؤلاء العاشقين، يبرز عبد الحميد خيري، الذي أمضى أكثر من 60 عاما في خياطة القشابية. خيري لم يكتف بالحفاظ على هذا الموروث، بل أبدع في تحويل القشابية إلى قطع فنية تزين الصالونات والمعارض، ليكون بذلك رمزا حيا للحفاظ على تراث الأجداد وعراقة الحرف اليدوية.

في لقاء مع “الشعب”، على هامش الصالون الوطني للبرنوس والقشابية، تحدّث عبد الحميد خيري عن مسيرته الطويلة في الحفاظ على القشابية، هذا الموروث الذي يشهد على عراقة الأجداد وحكاية نسجت بخيوط الانتماء عبر أجيال متعاقبة، لتبقى شاهدة على تاريخ الأمة وحاضنة لهويتها الثقافية والوطنية.
يقول خيري ولدت عام 1955، بدأت تعلّم خياطة القشابية والبرنوس وأنا في العاشرة من عمري داخل المنزل، فكان والدي وهو تاجر يطلب مني خياطة البرانيس، وكانت في تلك الفترة ثلاث عائلات فقط تشتهر بهذا الفن التقليدي، وهي عائلتنا وعائلتا “عوبي” و«عبد الوهاب”.
ويضيف “برعت في خياطة القشابية والبرنوس وأنا في سن الرابعة عشرة.حتى ذاع صيتي في المنطقة، وبدأ المعلمون والشيوخ الكبار في المنطقة يطلبون مني خياطة البرانيس والقشاشيب”، ويروي أنه “في السبعينيات، صنعت قشابية لأحد الأشخاص من ولاية غرداية. وعندما أخذتها رفقة أحد التجار، كرمت بمأدبة غداء فاخرة نظير إعجابه بها، وكانت تلك اللحظة بداية شهرتي على نطاق أوسع”.

جزء من تاريخ الثّورة التّحريرية

 يستعرض خيري دور القشابية في الثورة الجزائرية، قائلا “لقد كان للقشابية دور كبير في الثورة التحريرية، حيث كانت تحمي المجاهدين من البرد وتساعدهم على التخفي عن العدو. كانت القشابية ذات الأشرطة السوداء والرمادية واللون الترابي سلاحا سريا استخدمه المجاهدون خلال معاركهم”. وأضاف وهو يشعر بفخر كبير عندما يتحدث عن مساهمتها في تاريخ الجزائر، “هذه القطعة التراثية كانت في فترة الاستعمار جزءا لا يتجزأ من حياة المجاهدين، فقد لبسها رجال ضحّوا بحياتهم من أجل الوطن، وكانت رمزا للبطولة والصمود، لقد دفن العديد من الشهداء في القشابية، وهذا هو سرّ قوّتها”.

تحوّلات في التّصميم

 تحدّث خيري عن تطور شكل القشابية، حيث ذكر بأنها كانت في البداية تتسم بالبساطة، مع وجود فتحة في الذراع ليتمكّن من يلبسها من إخراج ذراعه أثناء الوضوء للصلاة، فقد كان آباؤنا يرتدون القشابية بشكل يومي، وكنت أرى والدي كيف كان يخرج يديه من تلك الفتحة ليتوضّأ عندما يكون مع الغنم خارج البيت، أغلقنا تلك الفتحة ممّا أصبح يتطلّب نزعها بالكامل عند الوضوء.
وتتميز قشابية الجلفة بعدة خصائص عن القشابية في بعض المناطق الأخرى، من أبرزها وجود فتحة في وسطها تسمح للشخص بإدخال يده لاستخرج ماله أو وثائقه، وهو أمر غير موجود في القشابية التقليدية في بعض البلدان الأخرى، كما تتميز بمثلث عند الكتف، الذي يرمز إلى الهوية الجزائرية والعربية.
وتغيرت هي أيضا عبر الزمن، ففي الماضي كانت عريضة دون جيوب، أما اليوم فقد أصبحت ضيقة نوعا ما، بالإضافة إلى ذلك فإن القشابية العربية عند قياسها يجب أن تكون بطول 1.45 متر، أما القشابية العادية فهي عادة 1.32 متر وتخيط بشكل عادي. القشابية في بدايتها كانت تتميز بقبعة ملتصقة بها تشبه البرنوس التقليدي، ثم تغيرت إلى هذا التصميم الذي يعرف بالقشابية “الشاوية”، فقد أُطلق عليها اسم “المذبوحة” لكون القبعة منفصلة عنها. ومع مرور الوقت، ظهرت تغييرات جديدة، فجاءت فكرة تصميمها على شكل “كابيشو”، لكن البعض رأى أن هذا الشكل الجديد لا يلقى قبولا محليا، فتم تسويقها إلى الخارج بدلا من ذلك. هذه التفاصيل تظهر الاختلاف الكبير بين القشابية التقليدية والموديلات الحديثة.

من وبر إلى تحفة فنية

 يستعرض خيري في حديثه أنواع القشابية المختلفة، موضحا أن هناك ثلاثة أنواع رئيسية من الوبر، “العقيقة” وبر المخلول، ووبر الجمل الأكبر منه، والجمل الشارف، وهو الذي يضاف الى وبره الصوف، لكن القشابية المصنوعة من الوبر الخالص تحظى بمزايا كبيرة، إلى جانب قشابية الصوف، ما يعني أن هناك أربعة أنواع لكل نوع سعره الخاص.
صناعة القشابية الجلفاوية ليست مجرد عملية حرفية، بل هي فن أصيل يعكس عبقرية وإبداع الحرفيين. يقول خيري “تبدأ العملية بزج المخلول أي (صغير الجمل)، وهو الوبر الأول الأغلى سعرا في صناعة القشابية. بعد ذلك، تأتي الزجة الثانية حيث يُستخدم وبر الجمل الأكبر من المخلول، ثم تليها الزجة الثالثة التي تتضمن وبر الجمل الشارف، وهو الأكبر سنًا. في هذه المرحلة، يتم إضافة الصوف لجعل القشابية أكثر رطوبة ومرونة. وكل مرحلة من هذه المراحل تمنح القشابية خصائص مميزة، ما يجعلها قطعة فنية ذات جودة عالية.
بعد ذلك يتم انتقاء الوبر بعناية فائقة تحت ضوء الشمس الطبيعي، بعيدا عن تأثير الإضاءة الكهربائية، لضمان وضوح اللون وجودة المادة الخام.
في المرحلة الأولى، بعد جمع الوبر والصوف يوضع على قطعة قماش بيضاء، ثم يُضرب بعصا، بعد ذلك يُحل باليدين لتسقط الشوائب العالقة به، ثم تأتي مرحلة التمشيط التي تُعد الخطوة الأكثر أهمية. يُستخدم في هذه المرحلة أدوات تقليدية مثل المشط، السلسال، أو الثنثار لفصل الألياف وترتيبها، ثم مرحلة “القرداش”، حيث يتم تمشيط الوبر بدقة أكبر لتنعيمه وتحضيره لعملية الغزل. عند هذه النقطة، ينتقل إلى “المغزل” حيث يُحول إلى خيوط طويلة ورفيعة.
ويتم اختيار لون الخيط بعناية ليطابق لون الوبر أو الصوف الطبيعي، وهي خطوة تظهر مدى اهتمام الحرفيين بالتفاصيل الدقيقة، ثم “السدوة” حيث تشرع الحرفيات في عملية النسيج حتى تصبح القشابية جاهزة. لكن في النهاية كل شيء يعتمد على اليدين، مثل طهي الطعام، فكل امرأة لها لمستها الخاصة فتجد أن بعضهن يحضرن الكسكس خشنا، وبعضهن تجعلنه رطبا، وأخريات متوسطا..وهكذا، فهناك مهارات خاصة بكل واحدة في العمل”، يقول خيري.

أصعب مراحل الصّنع وأسرار خياطتها

 قال خيري إن أصعب مرحلة في صناعة القشابية هي القياس، وهي الأهم في صناعة القشابية، حيث يشدّد الحرفيون على أن الخياط نفسه هو من يجب أن يقوم بعملية القياس، فلا يمكن أن يعتمد على شخص آخر للقيام بهذه الخطوة نيابة عنه. ذلك أن القياس الدقيق يتطلب مهارة خاصة، حيث يعتبر الخياط الفنان الذي يفهم تفاصيل الجسم ويضبط القشابية لتكون مثالية، وأي تقصير في هذه المرحلة قد يفسد جمال اللباس وجودته. وأضاف أنه يتبع طريقة دقيقة في العمل، “إذا لم تعجبني “نفدة” في الجزء الذي أخيطه، أعيد حلها وخياطتها من جديد حتى أحصل على النتيجة الأفضل”.
كما تطرق خيري أيضا إلى التطورات التي طرأت على صناعة القشابية، مثل استخدام مواد مستوردة مثل “وبر الصين” و«وبر العراق” الذي يصنع باستخدام آلات حديثة، أثرت على خصائص القشابية وجعلها عرضة للغش، وأضرّ بصناعة القشابية الأصلية المصنوعة يدويا التي لا تضاهى في جودتها.
ورغم كل التحديات التي واجهها، إلا أن خيري عبد الحميد تمسك بمهنته وواصل العمل عليها، رافضا التحول إلى الخياطة الآلية. “أنا أؤمن بأن كل قطعة قشابية ناتجة عن يد ماهرة تحمل في طياتها قصة وتاريخا”، يقول خيري، مضيفا أن القشابية الجلفاوية أصبحت في السنوات الأخيرة منتجا مطلوبا في الأسواق الدولية. ويروي ذلك وهو يظهر فخره بتصدير القشابية إلى دول مثل روسيا وفرنسا وتركيا، قائلا “طلب مني أحد الأشخاص كان مسافرا الى روسيا، خياطة سبع قشاشيب بمقاسات لزملائه هناك..لقد أصبحت القشابية، بالإضافة إلى كونها رمزا للتراث الجزائري، سفيرا ثقافيا يعبّر عن الهوية الجزائرية في مختلف أنحاء العالم”.

كتاب يوثّق تاريخ القشابية والبرنوس

 رأى خيري أنه من الضروري أن يؤلف كتابا حول صناعة القشابية والبرنوس لتوثيق هذا التراث العريق الذي يمتد عبر الأجيال. بدأ المشروع عندما اقترح خيري على ابنه، الذي هو أستاذ أدب أن يكتب خبرته الطويلة في هذا المجال. ولاقى الاقتراح قبولا حماسيا، ليبدأ العمل معا في هذا المشروع الذي يتناول تاريخ البرنوس، ويبرز الشخصيات البارزة التي ارتدته مثل الأمير عبد القادر وهواري بومدين، كما يتطرق الكتاب إلى الشخصيات الدولية مثل معمر القذافي وفيدال كاسترو وآخرون.
يناقش الكتاب أيضا حسبما ذكره خيري، عملية صنع القشابية بدءا من الخياطة وحتى الزخرفة والقياسات الدقيقة، في سرد مفصل يشمل جميع مراحل الصناعة. ويقع الكتاب في 96 صفحة، وهو يعد مصدرا غنيا بالمعلومات التي تبرز هذا الفن التقليدي، الذي أصبح اليوم جزءا من التراث الجزائري.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19706

العدد 19706

السبت 22 فيفري 2025
العدد 19705

العدد 19705

الخميس 20 فيفري 2025
العدد 19704

العدد 19704

الأربعاء 19 فيفري 2025
العدد 19703

العدد 19703

الثلاثاء 18 فيفري 2025