كتاب ببصمة خاصّة وتصميم أكاديمي صميم، هو أوّل كتاب يتحدّث عن الإستراتجيّة العسكريّة في حرب المقاومات الشعبيّة لكاتب جزائري فيما أعلم، ولا أظنّ أنّ كاتبا جزائريّا سبقه إلى ذلك، لما تميّز به من خصائص لا تتوفر دائما لدى المؤلفين وهي: التخصّص، والتجربة الميدانيّة والقرب من الحدث مع الكفاءة الأكاديميّة العلميّة.
كتاب جديد حول القضيّة الصّحراويّة في جانبها العسكري البحت كتجربة ثوريّة؛ للجنرال المتقاعد الأستاذ الهادي بوضرسة، طبع في ( دار علي بن زيد للطباعة والنّشر)، جاء الكتاب في جزأين اثنين، الجزء الأوّل في 361 صفحة أمّا الجزء الثاني ففي 343 صفحة من القطع المتوسّط، وكلا الجزأين مزوّد بالصّور والخرائط والوثائق والبيانات التوضيحيّة، التي طعّمت الكتاب بنكهة خاصّة جعلت منه ثريّا بالمعلومات غزيرا بالمعارف العسكريّة، ما يجعله – بغض النظر عن الاعتبارات السياسيّة – كتابا جيّدا يصلح أن يدرّس في الأكاديميّات العسكريّة.
وقد خطر في ذهني أوّل ما قَرَأْتُه أنّه يشبه إلى حدّ بعيد كتب ( اللّواء الرّكن محمود شيت خطّاب ) العسكري العراقي والكاتب المعروف، وقد تميّز عليه بأنّ صاحب هذا الكتاب عايش الأحداث وخالط أهلها من قرب، وراقب عن كثب كثيرا من تقلبات الأحداث وتطوّراته.
@ الجزء الأوّل:
حدّد الكاتب ( الأستاذ الهادي بوضرسة ) ملامح هذا الكتاب العامة بعنوان صغير توضيحي يعتبر مدخلا ومفتاحا لمحتوى الكتاب:
( أساليب وطرائق إدارة المعارك في حرب الصّحراء/ بيانات تحليليّة – الدروس والخبرات العسكريّة من حرب الصّحراء ). وقد أهدى المؤلّف الكتاب إلى: ( كلّ ثوّار المعمورة والمناضلين من أجل استرجاع سيادة أوطانهم وكرامة شعوبهم المغتصبة). وقدّم للكتاب بكلمة لطيفة محمّد الأمين أحمد، أوّل ( رئيس وزراء صحراوي )، أمّا المؤلّف فقد قال في مقدّمته:
« .. يعتبر التّاريخ العسكري لهذه الحرب وقراءة مجرياتها «حرب الصّحراء الغربيّة « مصدر إلهام للجميع لما تحتويه من معرفة خاصّة، وهامّة وملموسة، خاصّة ما تعلق منها بمدى تطبيق الأطراف المتحاربة لمبادئ وفنّ الحرب، وما هي السّمات البارزة في تكتيكات وأساليب القوى المتصارعة ؟ ومدى بلوغ هذه الطرق إلى مصاف فنّ الحرب وفقا لما ورد في نظريّات المفكرين العسكريين القدماء ؟»،
وقد قسّم الكاتب ( الأستاذ الهادي بوضرسة) الجزء الأوّل من كتابه إلى ستة أبواب:
@ الباب الأوّل: عن التعريف بالصّحراء الغربيّة جغرافيّا وتاريخيّا ومن حيث التركيبة الاجتماعيّة.
@ الباب الثاني: تحدّث فيه عن إدارة العمليّات في الصّحراء الغربيّة ومن عناصره ( - دراسة عامة لمنطقة العمليّات ) – الإعداد والتخطيط – تكييف وأقلمة القوّات ...).
@ الباب الثالث: تعايش المقاتل الصّحراوي، وخصّصه لعنصر هام للغاية وهو ( البقاء على قيد الحياة).
@ الباب الثالث: الأسلوب الصّحراوي في إدارة العمليّات، وتحته عناصر جدّ هامّة ميّزت الكتاب عن غيره من الكتب الكلاسيكيّة الأخرى:
- طريقة المقص
- طريقة الخطّ الثابت
- طريقة الاستدراج للانقضاض
- طريقة المحلاج
- طريقة الحقنة
- طريقة الاختراق الشامل...
وقبل أن تغادر هذا الباب نقف في دهشة المعجب مع أحد الأساليب القتاليّة برهة نتأملها وننظر في أبعادها القتاليّة، ولنأخذ المقصّ مثلا عن ذلك:
^ يقول المؤلّف:
« طريقة المقصّ : أسلوب قتالي ينفذ ضدّ مجموعات معادية كبيرة ( مستوى فوج/ لواء ) في حالة الحركة للقيام بالهجوم أو التنشيط ( منتشرة / فتح ) ينقضّ عليها مفرزة أقلّ عدد وعدّة من الحركة وبسرعة خاطفة مدعّمة بنيران غزيرة، دون انقطاع حتى تصدم العدوّ الذي تخترقه على كامل جبهته، محدثة ثغرات في تشكيله بكيفيّة تشبه التمزيق إلى مجموعات صغيرة...»
ويدعم الكاتب هذه الطريقة بصورة توضيحيّة دقيقة، ويتّبع ذلك في كلّ طريقة يتحدّث عنها أو فنّ من الفنون الحربيّة الصّحراويّة يذكره في هذا الكتاب، والكتاب كلّه على هذا النمط الدقيق من التمثيل والتوثيق.
@ الباب الرّابع: تحدّث فيه المؤلّف عن مراحل وأساليب الانتفاضة في الأراضي الصّحراويّة.
@ الباب الخامس: ذكر فيه خلاصات تحليليّة لحرب الصّحراء.
@ الباب السّادس: جعله عن ( مرحلة الاستعداد/ العمليّات القتاليّة / الكمائن والإغارات ...
وذيّل الكتاب بقائمة من المراجع والمصادر. وهي متنوّعة ما بين مكتوبة (ورقيّة وإلكترونيّة) بالعربيّة، ومكتوبة بالإنجليزيّة.
@ الجزء الثاني:
بالعنوان نفسه ( تجربة البوليساريو العسكريّة ) مع عنوان مفتاحي آخر يكشف مضمونه وهو ( إستراتيجيّة ثوار البوليساريو، إسقاط ومطابقة مبادئ وفنّ الحرب الواردة في كتاب فنّ الحرب لـ « سون تزو « على حرب الصّحراء ).
وهو نوع من التطبيق الإجرائي عمد إليه الكاتب على أنّ تجربة الثوار الصّحراويين – رغم بساطة المكان والإنسان والمعدّات – إلا أنّها توافقت مع كثير من المبادئ التي جاءت في كتاب ( فنّ الحرب ) للصيني سون تزو، بل وفي بعض الأحيان تجاوزتها بكثير.
في بداية هذا الجزء يضع المؤلف عتبة ولوج هامة ولابدّ منها، وهي مقولة لأحد زعماء القضيّة الصحراويّة الأوائل الشهيد مصطفى الولي السيّد:
« إذا أردت حقّك يجب أن تسخي بدمك، برفاهيتك، يجب أن تضحّي بكلّ شيء من أجل شيء واحد وهو الكرامة «.
ويقول الكاتب في مقدّمة هذا الجزء:
« تجربة الصّحراء الغربيّة تذكّرنا بأنّ التضاريس الصّحراويّة لا تزال بمقدورها تسهيل نجاح عمليّات حرب العصابات بصورة أكثر إثارة مما كان الجميع يتوقّع «.
ويقسّم هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول كبرى هي:
الفصل التمهيدي: وتحدّث فيه عن إستراتيجيّة حرب الصّحراء ومبادئها الأساسيّة والحزام الدّفاعي المغربي ...
الفصل الأوّل: وذكر فيه مبادئ فنّ الحرب الثلاثة عشر وحرب الصّحراء. كما عرض أيضا إلى فنّ الحرب السّري ( الستّ والثلاثون حيلة ) ومنها: ( حيل الوضع المتفوّق / حيل الهجوم / حيل الفوضى / حيل الهزيمة ..)
ومن السّت والثلاثين حيلة في فنّ الحرب نذكر واحدة على سبيل التمثيل:
يقول في صفحة 251 من الجزء الثاني:
« قم بضرب العشب لإرهاب الحيّة:
إذا لم تكن قادرا على اكتشاف خطط عدوّك فقم بشنّ هجوم مباشر ولكنّه قصير، ولاحظ ردّ فعل خصمك فسوف يكشف تصرّفه عن إستراتيجيته ..»
والكتاب مزوّد أيضا بشهادات حيّة لصحراويين خاضوا الحرب في ميدانها، ولقوا من ويلاتها وعذاباتها صنوفا وألوانا، لكنّهم كانوا رجالا أشاوس يُقدمون ولا يحجمون ويظهرون في كلّ موقف شجاعة نادرة، وذكاء خارقا يتكيّف مع الوضع والأحداث.
وخُتم الكتاب أيضا بفهرس ومراجع مع فهرس للصّور لأهمّيتها.
الكتاب عمل جبّار وجهد يستحق القراءة والدّراسة، لا ينبغي أن تغفل عنه أيّة مدرسة عسكريّة أو حركة مقاومة شعبيّة. ويبدو أنّ في جعبة الكاتب الكثير في هذا الميدان، ولعلّه يخدم المكتبة الجزائريّة والعربيّة بأعمال موسوعيّة ضخمة في شتى المجالات الحربيّة والعسكريّة، التي تنفع الأجيال وتكون مرجعا للباحثين والأكاديميين الجامعيين والعسكريين منهم على السواء.