تسعون سنة مرّت على ميلاد فرانز فانون، الطبيب المناضل والمجاهد المفكر.. هذا المارتينيكي الأسمر، الذي جاء إلى الوجود ذات 20 جويلية 1925، كُتب له أن ينشأ في جزيرة، ويتعلم في قارة، وتشاء الأقدار أن يمارس مهنته بالجزائر، فتكون هذه الأرض الثائرة من يخرج اسم فانون إلى النور، ويسقيه جرعة من إكسير الخلود.. تسعون سنة مرّت، وفانون لمّا يزلْ ملهم عشاق الحرية عبر العالم.
مهما كتبنا عن هذا المناضل المتسامي فكرا وروحا، ما وفّيناه قدره، وقد كتب عنه كثر، وألفوا حوله الدراسات والأبحاث، وفي كلّ مرة يُكشف عن جانب آخر مضيء من منهجه وأفكاره، وهو الذي رحل قبل أن يتمّ عقده الرابع.. ممّن كتبوا عنه إيمي سيزار، الذي ربما يكون قد حاول إنصاف نفسه من خلاله إنصافه لفانون.
حينما يُنصف الأديبُ الطبيبَ
في ديسمبر 1961، كتب الأديب المارتينيكي إيمي سيزار مقالا في «جون أفريك»، كرّم فيه فانون المفكر أسبوعا فقط بعد وفاته، وهما ابنا نفس الجزيرة الساعية إلى التحرر من الاضطهاد الفرنسي. قال سيزار في مقاله: «توفي فرانز فانون في سن السابعة والثلاثين، وعاش حياة قصيرة ولكن غير عادية، وجيزة ولكن مبهرة، ملقيا الضوء على واحدة من أفظع مآسي القرن العشرين(...) إذا كان الالتزام كلمة لها معنى، فإنه يأخذ معناه مع فرانز فانون».
وأضاف: «قيل عنه إنه إنسان عنيف، وصحيح أنه وضع نفسه منظّرا للعنف لمّا يكون السلاح الوحيد في يد المستعمَر (بفتح الميم) في وجه المستعمِر وضد الهمجية الاستعمارية. لكن عنفه كان، دون مفارقة، عنف اللاعنف، وأعني بذلك العنف للعدالة والنقاء والعناد (المثابرة). نحن بحاجة إلى أن نفهم بأن ثورته كانت أخلاقية، ونهجه نهج سخاء. لم يكن يلتزم بقضية، بل كان يكرّس نفسه كلها لهذه القضية، دون تردد. ودون تجزئة. ونجد لديه مطلق الشغف».
واعتبر إيمي سيزار، في ذات المقال، بأن هذا الطبيب النفساني كان المؤهل لفهم معاناة الإنسان القابع تحت نير الاستعمار، بفضل مؤهلاته وتخصصه العلمي من جهة، ومن جهة أخرى لأنه هو نفسه كان ينتمي إلى شعب تستعمره فرنسا. لذلك تمرد على هذا الوضع، يقول سيزار، إذ وهو «طبيب في الجزائر، شهد الفظائع الاستعمارية، فكان التمرد. ولم يكن يكفي بالنسبة له أن يظهر تضامنه مع قضية الشعب الجزائري المضطهد، المعذب والمهان. لقد اختار فصار جزائريا، وعاش وقاتل، ومات جزائريا».
إجماع على عظمة الرجل
تعددت الآراء حول فكر فانون، فنجد الباحث لونيس بن علي، أستاذ النقد الثقافي في جامعة بجاية، يرى بأنه دشّن حقلا جديدا في نقد الاستعمار، وتأثيراته النفسية على المستعمَرين. وكان أكثر ما حفّزه على المضي قدما في نضاله، هو ظاهرة التمييز العنصري التي كانت من الأسباب التي نمّت فيه هذه العزيمة.
وللأفارقة نظرتهم إليه، فقد قال فيه هنري باث، الباحث من كوت ديفوار، إن فرانز فانون هو ثائر فوق العادة، فهذا الرجل كان يقول: ‘’لوني لون الإنسانية وديني دين الأخوة’’، واعتبر بأنه له نظرة إفريقية كاملة، وكان يحلم بإنشاء وحدة إفريقية تضم كل دول القارة وحذر من الوقوع فيما أسماه بالاستعمار الجديد، وكان يكافح ضد الاستلاب الثقافي والفكري والإنساني، ونظرته للاستعمار عمودية وليست أفقية.
لم يكن الإحساس بظلم وعنصرية الاستعمار وليد تجربة فانون في الجزائر.. ففي كتابه «فرانز فانون، قصة حياة»، يقول الكاتب والمترجم الأمريكي دافيد ماسي David Macey إنه «عندما انخرط فانون في صفوف المقاومة ضد الفاشية والاحتلال الألماني لفرنسا ما كان عمره يتجاوز السبعة عشر ربيعا. وقد قال فرانز فانون آنذاك هذا الكلام الهام: أنا لست على وجه الأرض لكي أدافع عن السود فقط، وإنما عن كل مظلوم ومضطهد».
ثورة الأفكار
كانت أفكار فانون ثورية، ليس فقط بالمعنى الحرفي للكلمة بل في معناها المجرّد كذلك: لقد فكّر للتحرر، للانعتاق وذلك في عزّ انتشار أفكار مدرسة فرانكفورت، ولكنه فكّر أيضا للثقافة وللهوية. اعتبر فانون بأن أساس الهوية هو الضمير، وأساس الضمير هو الثقافة، وأساس الثقافة هو اللغة. وخلص إلى أن شعوب المستعمرات الفرنسية تعاني من «استعمار اللغة».
ولعل ما يصنع قوة أفكار فانون هي ديمومتها في الزمان والمكان، فجلّ ما حذّر منه يحصل الآن، وإن تعددت الأوجه واختلفت المسمّيات، ولم يزل منهجه في محاربة المستعمر، قديمه وجديده، صالحا في معظمه، فالعالم المعاصر بات يحتاج أكثر من كل وقت مضى إلى الأخلقة؛ أخلقة السياسة، أخلقة الاقتصاد، أخلقة الحروب والنزاعات، بل وحتى أخلقة الأخلاق.