لطالما كان الوجه الذي خبرناه وألفناه عن عاشور فني، هو تلك الواجهة الأكاديمية التي عرفناه بها: أستاذ بالجامعة الجزائرية، وباحث في مختلف قضايا الفكر والأدب، وفي أحيان الفلسفة.. ولكن نزوله ضيفا على فوروم “الشعب”، كان فرصة لكثيرين لكي يكتشفوا لدى الدكتور فني جانبا آخر، أكثر حساسية ورهافة، وأكثر وجدانية وتعبيرا عن الذات.. حينما يسرد عاشور الشاعر تجربته، يحسّ سامعه بكثير من المعاناة التي ترجمها “فنّي” فنّا وإبداعا..
دعونا نبدأ من حيث انتهى عاشور فني، حينما أجابنا عن سؤالنا، أو بالأحرى تعبيرنا عمّا لمسناه في تجربته، من معاناة تشارك فيها كثير الجزائريين، ولكنها لم تنتج بالضرورة تعبيرات إبداعية كتلك التي تبلورت لدى ضيفنا، وجعلت منه الشاعر الذي هو عليه الآن. يقول فني: “المعاناة معاناة جميلة وفيها سعادة، وأشهد أني عشت معاناتي سعيدا”.
قداسة الحرف
ولكن فني كان قبل ذلك قد قارن بين مختلف الأجيال التي عرفتها الجزائر المستقلة، معتبرا بأن جيل غرّة الاستقلال بدأ من ما دون الصفر، “الأجيال التي بعدنا كانت أحسن حظا”، وكان أن سرد فنّي تجربته الحياتية في أحد التظاهرات بدولة أجنبية، وكان من بين الحضور مشارك فرنسي الجنسية، سارع إلى الاعتذار على الملأ وإعلان براءته من كلّ ما قام به الاستعمار الفرنسي، وأنه كان مع استقلال الجزائر !
وعرّج عاشور فني على الوضع الخاص، وهو المحيط العائلي الذي امتصّ إلى حد بعيد الوضع العام للبلد ككلّ: “في عائلتي كنا نتعلم القرآن ولكننا نقرا الكتب أيضا”، وذكر عناوين مثل سير عنترة بن شداد والزير سالم، معتبرا بأنه “في الوقت الذي أحرقت ألف ليلة وليلة في جامعة الأزهر، كان بيتنا أكثر تفتحا وتقبلا وكنا نقرأ الكثير من الكتب دون حدود”.
ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فالدراسة شكلت معضلة بالنسبة لفني: “في السبعينيات درست في مدرسة حرة، في زاوية الشيخ عبد الحميد حمادوش، التي حولت إلى إكمالية.. لقد دخلت المدرسة وعمري 13 عاما، وقبل ذلك كنت أدرس القرآن، ونلت شهادتي الابتدائي والمتوسط في سنة واحدة، بعد 3 سنوات من الدراسة، واضطررت بعدها أن أكمل مساري التعليمي عن طريق المراسلة”.
ولم يغفل عاشور فني العراقيل التي ميزت الدراسة بالمراسلة، مثل تأخر المواضيع وتعذر الحصول عليها قبل شهر في أحيان كثيرة، وهو ما لم يثنه عن المواصلة: “لم أعرف المعنى الحقيقي للدراسة في شكلها النظامي إلا حينما التحقت بالجامعة”. ما الذي يقف وراء هذا الإصرار والتفاني؟ يقول فني: “التعليم كان مطمح كل الجزائريين، وكانت كل عائلة تريد أن توفر مقدارا ولو بسيطا من التعليم لأبنائها، وكلما اقتربت المدرسة كلما زاد الإقبال عليها”.
الهجرات الثلاثة
ليعرّج فني على تجربة أخرى فارقة في حياته، هي أداؤه الخدمة الوطنية، التي التحق بصفوفها سنة 1977، وشاءت الأقدار أن يتم توجيهه إلى تمنراست: المدينة التي غيرت نظرته للعالم حسب قوله، والدليل هي تصدّيه للكتابة الشعرية مباشرة بعد انتهاء خدمته في هذه المدينة، حيث بدأ النشر سنة 1979. “لقد كان الشعر عندي بديلا لمدينتين: سطيف وتمنراست، ونتيجة لجرح كبير.. بكتابتي الشعر لم أكن أريد الترفيه عن نفسي، وإنما التعبير عن ذاتي، والكتابة لم تكن وسيلة للعيش وإنما طريقة في الحياة”.
وما الذي يمكنه أن يخرج من أعماق الذات تلك القوة الرهيبة التي هي “قوة الشعر”، لولا تجارب الحياة العصيبة: “لقد كتبت قصائد في ظروف لا تسمح بالكتابة، ولكن الكتابة سمحت لي بتجاوز تلك الظروف”.
وهكذا تشكلت شخصية عاشور فني الشعرية، من خلال ثلاث هجرات: هجرة أولى من الريف، الذي تعلم فيه الشاعر معنى أن يعتمد المرء على نفسه في أبسط الأشياء مثل بري اليراع وصناعته بنفسه، إلى المدينة التي كانت في هذه الحالة سطيف.. ثم هجرة ثانية إلى تمنراست ومنها، فهجرة ثالثة إلى العاصمة الجزائر، “هناك تعرفت إلى الأسماء الأدبية، وإن كانت الساحة الأدبية مغلقة في بداية الثمانينيات”.
الواقع المرّ..
ولعل الساحة الأدبية بمختلف عيوبها، زادت من هواجس الشاعر المارّ عبر هذه الهجرات المتواصلة: “إن النجاح الثقافي صار نجاحا إعلاميا أو تجاريا، ومن عاش مثلي في كد وجدّ يجد صعوبة في النجاح بهذه الطريقة”.. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة تماشي المرء مع الوضع أو تركه ما كان عليه سابقا: “مازلت أحمل شيئا من الجزائر التي عشتها وأعيشها”، يؤكد فني، مضيفا انه يتمنى الكتابة عن هذه المرحلة بالتفاصيل، لأهمية هذه التجربة في فهم الحالة الحالية للثقافة، والتي يقول عنها فني: “الأسماء الجديدة ليس لها مرجع أو طموح كبير، طموحهم الوحيد هو أن يحققوا نجاحا إعلاميا بسيطا، وكأن تجارب كاتب ياسين وغيره، التجارب التي تدوم في الزمن عقودا، صارت منعدمة حاليا”.
ولا يتأتى النهوض بهذا القطاع، يقول فني، إلا باتباع سياسات واضحة ومرسومة، ويستشهد بتجاربه في مختلف المهرجانات الشعرية التي حضرها وراء البحار، إذ وجد حرصا على التنوع الجمالي والاختلاف اللغوي في مهرجانات إسبانيا أو إيطاليا، لأن الشعر يتحول إلى صانع للحوار وحامل للسلم.. وحرصا على الهاجس السياسي في أمريكا اللاتينية، أين نجد الشعر مبنيا على الحركة الجماهيرية.. فيما يقوم الشعر على النخبوية في أمركيا الشمالية، وتلقى القصائد على جمهور حقيقي “ومن ليس شاعرا فلا مكان له”، أما في شمال أوروبا فمهرجانات الشعر تقام مع الحركة الثقافية مثل معارض الكتاب.. فأي نموذج من بين هذه النماذج تتّبع الحركة الشعرية عندنا؟ يجيب فني: “الجزائر أكبر من البريكولاج”.
لكلّ تجربته
يعتبر عاشور فني بأنه ليس ناطقا باسم أحد، ولا يعبّر في شعره، بالضرورة، عن معاناة الآخرين، بل على العكس، هو يرفض المقولة السائدة بأن الشاعر هو مرآة الأمة ولسان مجتمعه، ويؤكد فني على أن لكلّ تجربته الخاصة في الحياة، وأن التفكير والإبداع الجماعي قد انتهى زمنه، فكلّ لحظة شعرية يعيشها الشاعر إنما يعيشها لنفسه وبنفسه، ويعبر عنها بصور نابعة من بئره الخاصة التي يختلف ماؤها عن مياه الآخرين.. يقول فني: “حسب الشاعر أن يكون شاعرا، وليكتف بذلك لأن الشعر قيمة كبرى في حد ذاته”.