«قدّرت الأكاديمية السّويدية لجائزة «نوبل» أن سرد عبد الرزاق قرنح «متعاطف خال من أيّ مساومة بآثار الاستعمار ومصير اللاّجئين العالقين بين الثّقافات والقارّات»، وأعلنت فوزه بالجائزة الأثيرة لعام 2021، لتفرض توجّها جديدا في التّعامل مع الأدب، وصفه المتتبّعون عبر أنحاء العالم، بأنه «احترافي»، بينما استولى الذّهول على الضّفة العربيّة التي اكتشفت الاسم النوبلي فجأة، فلم تجد له أي عمل منشور في اللّغة العربية؛ وهو ما جعل المقالات محتشمة، واكتفت في معظمها، بتقييم الأكاديمية نفسها، عوضا عن تقديم نوبل الجديد..
كان من حسن الحظ أن وقعت مجلة ّ»الدّوحة» القطرية على الأستاذ صبري حافظ الذي التقى قرنح قبل ثلاثين عاما في بودابيست، ثم توالت لقاءاتهما في ندوات كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، فأعدّ مقالا وسمه بعنوان: «ذكريات عبد الرزاق قرنح.. المسيرة والمسار»، واجتهدت المجلة في ترجمة عدد من الحوارات التي أدلى بها قرنح إلى عدد من المجلات والجرائد، إضافة إلى حوار مترجم هو الآخر، مع سيلفيت غليز، مترجمة قرنح إلى اللغة الفرنسية، فحفظت بهذا ماء وجه الإعلام العربي، وكرامة النّخب المثقفة التي تعوّدت على استغلال نوبل الأدب في استعراض العمق الذي تتمتّع به..
خالفت الأكاديمية السّويدية إذن، كلّ التّكهنات، فلا هاروكي موراكامي أقنع، ولا مارغريت أوتوود تمكّنت.. بل إنّ اسم علي أحمد سعيد، أدونيس، الذي ينتشر كلّ عام في التّكهنات، اختفى تماما من أعمدة الصحف، ليأتي اسم عبد الرزاق قرنح، فيصنع المفاجأة ويلقي الذّهول، ويفرض على السّاحة الثقافيّة العربيّة الصّمت والتّرقب..
معالم..
والحقّ أن صاحب نوبل الجديد، ليس ممّن يعشقون الأضواء، ولا ممّن يلتمسون أسباب الشّهرة، فالرّجل، أديبا وناقدا، يشتغل في صمت، ولا يجد رغبة في الظهور، حتى إن حسابه على «تويتر» بسيط جدا، لم يسع إلى الحصول على العلامة الزرقاء ولا إلى توسيع قائمة المتابعين، بل إنّه، بعد حصوله على نوبل، ألغى اسمه الحقيقي، واتّخذ اسما مستعارا.. لعله فعل ذلك رغبة في الاحتفاظ بعالمه الجميل الذي يكتفي فيه بمتابعة المنجز الإفريقي، والثّناء عليه..
ولقد ظل قرنح محافظا على إفريقيا التي تسكنه، فلم يغيّر موقفه بعد هجرته إلى بريطانيا عام 1968، أين اتّضحت ملامح العبقرية في كتاباته، مخالفا ومعارضا، وناقدا مراجعا للأدب الإفريقي.. نشر «ذاكرة الرّحيل» عام 1985، وألقى بها كثيرا من تباشير نبوغه في تأصيل البنى السّردية، والتّحكم في أدقّ تفاصيل مادّته، إلى درجة أنّه يمكن أن يسير بقارئه زهاء المائة صفحة، ثم يذكّره بمنديل صغير كان بطل الرّواية قد تلقّاه هديّة من صديق، فيتكثّف الرمز بأسلوب بارع، ويحظى القارئ بفرصة نادرة للمشاركة في صناعة السّرد.. هكذا كتب قرنح رواية «قريبا من البحر» (2001)..
وقد يأتي من يتأوّل حديث بيان الأكاديمية السّويدية عن «التّعاطف» و»عدم المساومة بآثار الاستعمار»، بانصياع الرّوائي النوبلي للطرح الكولونيالي، أو قبوله بالأمر الواقع، غير أن الأمر على عكس هذا تماما؛ ذلك أن قرنح ملتزم بقضايا الحرية والعدالة في جميع أعماله، بل هو ملتزم بإفريقيا خصوصا، بمثل التزامه برفض الظلم الكولونيالي، فإذا لمس القارئ بعض النّقد الذي يوجّهه قرنح لخاصّة أبطاله، فإنّه لا يلبث أن يكتشف بأن النّقد عادل، وأنه لا يمكن أن يكون مسوّغا للتّواجد الاستعماري، ولا للعنصرية والطبقيّة التي يفرضها، وعلى هذا، يراهن قرنح على معنى الإنسان في ذاته، ويبحث عمّا يرفع من شأنه في البنية الثقافية الإنسانية عامة، من خلال مساءلة التّاريخ، وامتحان النّظريات، ومراجعة الأفكار التي تتسلّل عبر الأعمال الأدبية الكبرى، وتتحوّل إلى براديغمات تسيّر التفكير وتحدّد طبيعته وآليات اشتغاله..
ما الذي يجعل النّظرة إلى المهاجر الإفريقي دونيّة؟! لماذا تنتقص أوروبا من اللاّجئ الإفريقي؟! وماذا عن أولئك الذي يتجّمعون من شتى الأنحاء في مكان ما، ولا حقّ لهم في أن يكونوا جزءا من ذلك المكان؟! هذه بعض الأسئلة التي يثيرها قرنح، ولكنّه لا يسطّح التعامل معها، بل يعالجها من الجانب الإنساني على اتساعه، ويستغلّ أبسط الأشياء كي يرسم ملامح النظرية المتّسقة، فأوروبا ليست «كيفين إيدلمان»، حارس البوابة الذي يمنع اللاجئين عن دخول الفردوس الأوروبي، وإنما هي أيضا «رايتشل» التي تناضل ضد جميع ألوان البيروقراطيات من أجل الحصول على سقف يأوي لاجئا ضائعا، ولا تختلف الحال مع إفريقيا، فهذه لا يمثّلها التّاجر المكافح الذي يعيش بثمرات جهده فقط، لأنها هي الأخرى مرتع لأمثال رجب شعبان محمود الذين يستغلون كل ما حولهم من أجل أذية الآخرين.. هي أيضا الوزير المتصابي عبد الله خلفان، وهي النّظام المتهرئ الذي يهدم حياة أسرة سعيدة بسبب نزوة عابرة..
لم يستكن قرنح للكولونياليات الأوروبية، ولم ينتقص من اللاجئ إليها، وإذا كانت أوروبا لا تستقبل سوى الذين دفعوا ثمن قيمها العليا، فإن «العالم كلّه دفع مسبقا ثمن قيم أوروبا، بل إنّه – في معظم الوقت – ظلّ يدفع ويدفع دون أن يتمكّن من تحقيق أدنى فائدة (...) ماذا عن الأشياء التي نقلت إلى أوروبا لأنّها سريعة الانكسار.. هشّة.. ولا يمكن تركها بين أيادي الأهالي الخرقاء المهملة؟! أنا هشّ وثمين أيضا.. تحفة مقدّسة حساسة للغاية لا ينبغي تركها بين أيادي الأهالي».(قريبا من البحر)..
الكتابة والقضيّة..
انشغل عبد الرزاق قرنح في جميع أعماله بمسائل الذّاكرة، وهو إن لم يساوم، كما قالت الأكاديمية السويدية، فذلك لأن طبع «الأدب» لا يتقبّل «المساومة»، وإنّما يتطلّع إلى العدالة والإنصاف، ولعل التطرّق إلى «الذّاكرة» يوحي بأن الكاتب يعكف على استحضار صور الماضي من أجل إعادة بناء المذكّرات في الواقع المعيش، أو كأنّه لا يجد بديلا عن الافتتان بسرد القصص القديمة، غير أن الأمر مختلف كثيرا، فالأصل أن بداية قرنح كانت من الإحساس بالضّياع أو الانحراف، أو كلاهما معا، فتولّدت الرغبة في الكتابة، غير أن الكتابة – كما يقول قرنح – تتّخذ من «الذّاكرة» مصدرا، وإن كان الكاتب لا يتذكّر بدّقة كل الأشياء، ولهذا يشتغل على الفجوات، ويمنحها من الإقناع ما يجعلها تبدو «واقعية» وليس مجرّد بنى، وهكذا تكتسب القصص حياتها الخاصة.. قد يبدو الأمر تخييلا في البداية، ولكنّه لا يلبث أن يتجلّى كإعادة بناء للنفس في ضوء الذّكريات المتناثرة..
ولا ينكر قرنح تأثير الواقع الذي عاشه بإنجلترا على أسلوبه، بل يعترف أنّه لم يكن يرى فيما يدوّن كتابة حقيقيّة، ولم يظن مطلقا أنّه سيكتب، غير أن معيشته بإنجلترا جعلته ينتبه إلى الفرق بين التّدوين والكتابة، وهو يحيل إلى أول رواياته «ذاكرة الرحيل» (1985) التي طبّق فيها، أوّل مرة، ما استلهم من أساليب بناء الأفكار في عالم متخيّل.
أمّا أسلوب قرنح في السّرد، فهو متماسك بطريقة عجيبة، ويركّز على أدقّ التّفاصيل، حتى إنّه يستغل أقلّ حركة، أو أبسط نَفَس، في تكثيف الصّور التي يقدّمها لقارئه، وهو في كل هذا يتجنّب التسطيح ولا يسعى إلى تمرير فكرة مباشرة، وإنّما يستعين بالقارئ كي يستخلصها بمجرّد لفظة واحدة، أو إحالة إلى حدث سابق، ما يسمح له بتجنّب الوقوع في فخّ الشّعر، حتى وهو يخوض في مونولوغ داخلي، وعلى هذا، تجده يسترجع أو يستبق، كما هي عادة الرّوائيين، بمجرّد لفظة وحيدة، أو وصف لون ما، دون أن يرهق قارئه بمسوّغات وتبريرات لما ينبغي أن يستوعبه مرغما..
أمّا أبرز ما يلمسه قارئ قرنح، فهو الطريقة العبقرية في بناء الحبكات، حيث ترصف الأحداث بشكل يفتح السّرد على الممكن، ويوسّع أفق التّوقع، ثم يحدث المفاجأة المذهلة كي تكتمل الحبكة بأناقة، ويزدهر عنصر التشويق من جديد..
أما قضايا الهجرة واللّجوء والاستعمار، فهي محوريّة في أعمال قرنح، غير أنّه يعالجها بطريقة مختلفة تماما، فلا يمنح أي مساحة للخطاب المباشر، وإنّما يستثمر معالم الثقافة الإنسانية بأسلوب رائع.. «.. لا ينبغي أن ترتبك أمام شكسبير، فهناك كثير من الناس يقولون إنه لم يكن له وجود أصلا، وحتى إن ثبت وجوده، فهو لم يكن سوى حكيم مشرقيّ ترجمت أعماله إلى الإنجليزية» (ذاكرة الرّحيل).. ومثل هذا كثير في أعماله، ولقد أبدع في استغلال «بارتليبي الكاتب» في رواية «قريبا من البحر»، وبرع في توظيف جملته المشهورة «أفضّل أن لا أفعل»، ليشرح كثيرا من السّلوكات الإنسانية المعقّدة، دون تكلّف لغويّ، بطريقة غاية في الروعة.
الدّروس النّوبلية..
ولا نعتقد بأنّنا سنفيد شيئا إذا ركّزنا على أصول عبد الرزاق قرنح العربية، كما فعل بعضهم، تماما مثلما لا نرى نفعا في قراءة نوايا الأكاديمية السّويدية، وأيديولوجيتها والآفاق التي تحدّدها لجائزتها، ولا نجد فائدة في استرجاع سؤال الجوائز، ومدى صدقيّتها، أو معياريتها في ترتيب الأعمال الأدبية، فهذه كلّها أسئلة تحرث الفراغ، ولا تضيف شيئا إلى ساحتنا الأدبية والنقدية التي غفلت عن كاتب بحجم قرنح، واحتجّت لغفلتها بالمكتبة الفرنسية التي لم تحض سوى بثلاثة من أعمال قرنح في لغتها، وكأن هذا يعفي المترجمين والدّارسين والنّاشرين، وحتى كاتب هذه السّطور، من سوءة الغفلة عن اسم قيل إنه مجهول تماما، مع أنّ أعماله بلغت القوائم القصيرة لجوائز مرموقة في العالم، ناهيك عن الدّراسات النّقدية التي تناولت أعماله تفكيكا وتشريحا وقراءة، عبر مختلف الجامعات بأوروبا والأمريكيتين.
نعتقد أن نوبل 2021 قدّم صورة واضحة عن الشّرنقة التي نحبس بها أنفسنا، بعيدا عمّا يحدث في العالم، معتقدين بأنّنا نمتلك مقاليد المعرفة، ونهيمن على كل جديد، بينما نقبع وحدنا لنمضغ أسئلة مستهلكة، ونعالج نظريات متجاوزة، ونركن، وراء سياجنا الدّوغمائي المغلق، بتعبير محمد أركون، إلى الرّاحة والدّعة مقتنعين بفضلنا السّابق على الإنسانية قاطبة..
أما الدّرس النوبلي الثاني الذي ينبغي أن نستوعبه بشكل جيّد، فهو متعلّق بالجهد الإفريقي الذي فرّطنا كثيرا في مطالعته ومسايرته، ولقد بلغ التفريط أنّ طلبة قسم الدّراسات الإفريقية بجامعة الجزائر، لم يجدوا في المكتبات عملا إفريقيّا ليشتغلوا عليه في أطروحاتهم، ولا نظنّ أن الأمر يختلف كثيرا بالأقطار العربيّة، رغما عن وجود قامات عالمية بإفريقيا، من كريستيان سايدو وهي تشرّح الملاحم الإفريقية، إلى ماموسي ديانيي وهو يؤسس لنقد العقل الشفاهي، وصولا إلى محامدي سافاغودو وهو يجدّد نظرية الإبداع ويمنحها أسسها الأكثر ثباتا، في غياب تام للمترجمين والنّاشرين العرب، وكأنّ الجميع أيقنوا بأن المعرفة والجمال وحصافة الفكر احتكار ينبغي تختصّ به أوروبا وأمريكا فقط..
هناك درس آخر، وهذا نجده في ثنايا أعمال عبد الرزاق قرنح، فالرّجل يصف مجتمع زنجبار، ويتحدث عن تقاليده، كأنه يتحدث عن المجتمع الجزائري، وهذا يعني أنّنا أهملنا أهلا لنا، تخفق قلوبهم بآمالنا، ويتقاسمون معنا آلامنا وطموحاتنا، ولكنّنا لا ننتبه إلى وجودهم من وراء سياجنا الواثق..