مصعب غربي، مهندس دولة، كاتب ورئيس «نادي قسنطينة تقرأ»، ناشط جمعوي ورياضي، تقدّم للانتخابات المحلية المقبلة بمدينة قسنطينة، يفصح لـ «الشعب ويكاند» من خلال هذا الحوار عن أسباب ترشّحه وعن رأيه في المتغيرات التي قد تحدث في المشهد السياسي حين يصبح المثقف شريكا في صنع القرار.
- «الشعب ويكاند»: ما هي الأسباب التي دفعتك للترشّح إلى الانتخابات المحلية؟
مصعب غربي: بما أنني مدرك أنه على المثقف أن يعرف الواقع، وعليه أن يُلمّ بآليات التغيير، وأيضا عليه أن يؤمن بالقوة التي تغيّر، فقد ترشحت للانتخابات المحلية الولائية. وهذا لم يأت من عدم ولا صدفة، فعندما نؤمن بقضية ما، لا يجب أن تتزعزع قناعاتنا بمجرد حدوث ما يتعارض معها، بالعكس، يجب أن يؤدي ذلك إلى جرعات إضافية من الإصرار؛ وإلا فنحن ساذجون ورخويّون أيضا. يملك المثقف الفكرة، ويعي أن دوره يتمثل أساسا، في الإسهام في تجديد الفكر، بما يخدم مشروع النهضة والتنمية في بلده. ولكنه لا يجد السلطة التي تدعمه، أو التي تساعده على تجسيد رؤاه التنموية أو آفاقه النهضوية.
عشت شخصيا، تجربة سياسية كبيرة جدا، وهي تجربة الحراك المبارك، دفعتني إلى تهذيب قراراتي وصقل أفكاري، وتغيير نظرتي إلى الواقع، كما ساعدتني، على الاحتكاك المباشر بمختلف الشخصيات السياسية، العامة منها والمختصة في التحليل السياسي وغيرها من محامين وأساتذة أكاديميين وصحفيين.
ولأن المشهد في المجالس الشعبية المحلية، احتكره في السابق رجال المال الفاسد، وأصحاب المصالح والأجندات والحسابات الشخصية، أولئك الذين بمجرد دخولهم إلى مقرات المجالس، يتركون الشعب وانشغالاته في الخارج ولا يسعون إلا لما يخدمهم وزبانيتهم، فقد قرّرت الترشح، لمحاربة هذه المظاهر من الداخل، بعد أن حاربتها من الخارج أيام الحراك المبارك.
- تشهد الساحة عودة قوية للنخبة بعد طول غياب، هل هي بوادر الإفراج عن الأفكار البناءة و لتغيير للأفضل؟
أعتقد أن هذا السؤال يستدعيني لأطرح سؤالا مباشرا غامضا وخطيرا نوعا ما: «هل لدينا في الأساس، مثقف حقيقي وسياسة حقيقية، أم أن الأمر لا يتجاوز أن يكون في مجمله مجرد شبه سياسة وأشباه مثقفين؟». لأن غياب أو تغييب المثقف عن الخوض في الشأن السياسي، هو عنوان سائد لمشهد ثقافي سياسيّ عربيّ وجزائريّ تشوبه الضبابية والالتباس.
وأعتقد أيضا، أن مرد هذا يعود إلى عوامل يمكن الإشارة إليها فقط، كضيق وفقر الحلبات السياسية أوّلا، في خضم غياب الحياة الديمقراطية الحقيقية سابقا، بالإضافة إلى كون السياسة في نظر المثقف، مِحرقة تشويهيّة. نظرا إلى ارتباطها بكل أشكال الفساد والانتهازية، وبهذا نجد أن للأمر وجهان، وجه يعبّر عن غياب لفئة من المثقفين عن الشأن السياسي، ووجه يعبّر عن ممارسة تغييب وعمدية. مما جعله لا يحضر إلا بشكل محتشم، ومن باب النقد أو السخرية، وهذا ليس مرده سلبيته بقدر ما يعود إلى العلاقة المضطربة بينه والسياسة.
أتحدث عن نوع من المثقف الذي نجده عضويا في المجتمع، كما تحدث عنه غرامشي، يأخذ على عاتقه القضايا التي تعود بالأساس للأحزاب. يكون هو صوت المعارضة الوحيد تارة، يملأ الكثير من الفراغات الناجمة عن عجز الأحزاب. هذه الأخيرة التي ترى أن الثقافة مضيعة للوقت، ولا تنفع إلا في حدود ما تخدم مراميها ونواياها، إذ تعتبر المثقف مجرد ديكور لتأثيث مشهد انتخابي واسترضاء فئات هشّة يمكن الاستفادة من أصواتها واستخدامها كأبواق دعائية. مما جعل هذه المعادلة غير المتكافئة بين المثقف والسياسة غير ممكنة التحقيق إلا في حالة وجود بعض المشاريع التنموية الحقيقية داخل مناخ سياسي ثقافي صحي وديمقراطي. أما في زمن العصر الجديد، عصر السلطة الخامسة، أصبح من الصعب تغييب المثقف، إلا إن أراد هو أن يغيّب، لأنه أمست هناك فضاءات افتراضية تمكّنه من رسم السبل والطرق، ثم ينزل بها إلى الواقع. مثبتا بذلك أنه هو من يستطيع التفكير في الحلول وتجاوز الأوضاع المعضلة، أو المحتقنة، من خلال صياغة نموذج أمثل (باريديغمات جديدة)، والتأثير الفعلي لصناعة بعض القرارات.
- هل هذا الكم الهائل من المثقفين المترشحين وليد التغييرات السياسية؟
تعرّض المشهد السياسي إلى درجة كبيرة، وذلك مع بداية سنة 2019، أسقطت العديد من «بارونات» السياسة وزبانيتها. وجعل هذا الحدث من الكتلة المثقفة في الواجهة. احتدم الحديث عن المثقف ودوره، ودخل هو بدوره في صراعات، الكثير منها فكري وتنافسي، من تحاليل وقراءات، وتدوينات. ذهب بعضهم إلى انعدام دور المثقف، وأنه لن يحضر بفرصة أبدا، وهي الفئة غير المقتنعة بالتغيير، والتي ترى الواقع من ثقب واحد. وأخذ البعض على شريحة من المثقفين اصطفافها مع السلطة، راح البعض الآخر يعيب تردّدها في القيام بدورها، أو تقوقعها، سواء بالانسحاب، أو الاكتفاء بتخصصها الجامعي أو المعرفي، حيث لا نجدها - في الغالب - إلا وهي تُحدّث ضرباءها ويحدثونها في لغة مقعرة قد لا تنفذ لشرائح المجتمع، وهي لذلك لا تؤثر فيه. ومنه لا يمكنها التأثير كي تصنع القرار.
والأهم هنا، أن المثقف لا يتحرّك ليغير القواعد، ولكن ليتمكن فعليا من الاسهام في تجديد الفكر بما يخدم مشروع التنمية في البلاد، والمشاركة في تصحيح الاختلالات، ليجعل حالة التوازن والاستقرار، وهما الشرطان الأساسيان لتحقيق النهضة.
- استقطاب الأحزاب للنخبة كمترشحين عنها، هل هو بداية لتغيير رؤاها وهل انتماء المثقف إلى تشكيلة سياسية ما، ضمان للفوز؟
تندرج الإجابة على هذا السؤال، في أطروحات وجيزة جاءت بناءً على أسئلة سابقة، وهي معرفة الواقع ودور المثقف. فبيد أنني اعتبر، شخصيا، أن المثقف لا يجب أن يسعى للفوز، بقدر ما يكون سعيه وإصراره للتغيير والتجديد.
ولأن الواقع يقول، بأن للحزب وزنه واتساعه ونفوذه وتحكمه وتنظيمه ومناصروه وايديولوجياته، فهذا يختصر المسافة على المترشح تحت لوائه، خاصة وإن نجح، عكس المترشح ضمن القوائم المستقلة المطالبة ببذل مجهودات مضاعفة وجبارة، من تنظيم وتأطير وتشكيل وسعي إلى بناء للعلاقات وغير ذلك، وهذا ما يدفع الاغلبية من المترشحين في الانتخابات إلى التحالف أو الاندراج ضمن الأحزاب السياسية بعد الفوز.
ظلت سلبيّة المثقف المفرطة تجاه الواقع السياسي على حالها، فقد الثقة في شيء اسمه سياسة، بالرغم من أنه قد يكون اليوم أكثر التصاقا بواقعه الاجتماعي من حيث المظهر ومواكبة مفردات العصر، إلاّ أن سلبيته زادت تطيّرا إلى الحد الذي جعله يكتفي بالنقد والسخرية أحيانا، دون الانخراط في المبادرة، وكأن الفعل السياسي شأن لا يخّصه.
- الطريق إلى المجالس المحلية ليس سهلا، كيف للمثقف أن يضمن وصوله وماذا يحتاج من أدوات أو مساعدات لتوطيد مكانته وأداء دوره؟
يعلم المثقف أن الطريق غير سالكة في مجال السياسة، ومعالمها غير واضحة، وقواعدها نزقة، تتغير حسب الأهواء والظروف، وأن هناك أغطية للقوة. لذلك يصبح دوره أكثر إلحاحا، لأنه من يقع على كاهله وضع «بارديغم جديد»، ومن يرسي قواعد جديدة، وهو لن يفعل دون أن يُمحّص منظومة قديمة ويَعرضها للنقد، ومن دون أن يصطدم مع مصالح قائمة. لذلك فوضع المثقف يحتم عليه أن يفكر في الإطار الجامع لمكونات شعب، وهو الدولة، باعتبارها عقدا اجتماعيا، وعليه أن يفكر في الميكانيزمات التي من شأنها إرساء العدالة الاجتماعية، وعليه أن يُولي التربية أهمية كبيرة، لا باعتبارها منظومة نقل معارف، بل باعتبارها بوتقة للتغيير والتحوّل، أداته أن يكون نقديا، وأن يرتبط بمصالح مجتمعه، أي عضويا، وبيداغوجيا، يتحدث بما يفهمه الناس.
- بمعنى أنه بحاجة إلى تكوين في السياسة؟
«المثقف» لا يكاد يعرف من السياسة سوى أسماء العواصم والرؤساء والنظم الدستورية، و»السياسي» لا يفقه من المعرفة والثقافة سوى الأقطاب المكرسة والمتداولة، وذلك للتدليل على عدم جهله ليس إلاّ.
إذابة أسوار الجليد، ومحو الحواجز بين المجالات، لا يمكن أن تتوفر دون إرادة حقيقية من المثقف تضمنها دولة القانون والمؤسسات. وهذا الأمر بإمكانه أن يحدث اليوم كما حدث في الماضي البعيد والقريب.