تفقد الجزائر برحيل الفنان والملحن رابح درياسة صوتا موسيقيا أصيلا، وفنانا مبدعا من طينة الفنانين الكبار الذين استطاعوا بأصواتهم الخلود في الذاكرة الجماعية للأمة.
يعتبر صاحب رائعة «نجمة قطبية» أحد أهم الفنانين الذين انتصروا للأغنية البدوية الأصيلة، بإحيائها وإخراجها من الطابع المحلي إلى العالمية، حيث رأت النور واستطاعت تسجيل ألحانها في كبريات دور التسجيل كالأوبرا بفرنسا، وصوت العرب بتونس وانتشرت أغانيه عن طريق تسجيله الاسطوانات والكاسيت فيما بعد، قبل أن تمتد إلينا عواصف العولمة ويكون لها مكانة في المشهد الفني المحلي والعربي كغيره من الفنانين الذين عاصروه، على غرار خليفي احمد، عبد الرحمان عزيز، عبد الحميد عبابسة، صالح السكيكدي وغيرهم الفنانين الذين غادرونا إلى دار الخلود.
لقد ظلّ الفقيد درياسة صديقا وفيا للأسر والعائلات الجزائرية يلج البيوت دون استئذان بالرغم من محافظتها، وقبل 50 سنة من الآن، كنا نردّد ونحن صغارا أغانيه ونرفع من سقف المذياع حتى يصدح صوته ويتعدى جدران بيوتنا الطوبية العتيقة، نستمع اليه بحواسنا وننصت اليه اثيريا او عبر التلفاز في عصره الذهبي بالأبيض والأسود، وأحيانا ما كانت بعض أغانيه تدغدغ مشاعرنا فننخرط في رقصات تراوح الأمكنة في تناسق بهي حد الدهشة.
ونحن نستمع الى مواويله الفلكورية تدخل الأسر الجزائرية في حالة من الهستيريا والتعويذات فلا تسمع لها همسا لأن الشيخ درياسة بقامته الطويلة وتسريحة شعره الرطب الملمس ووجه المشع يقف امام الميكروفون ليمتعنا بباقة من البوماته، وعلى امتداد كلماته وهي تشق الاسماع المنصتة تردْد الألسن وراءه كل المقاطع دون خجل ولا إيعاز.
صوت من الزمن الجميل يفل نجمه ليلتحق بقائمة الأسماء الفنية التي صنعت مجد الأغنية الجزائرية الملتزمة والمحافظة ذات الطابع البدوي المتجذر في ثقافتنا الشعبية، يرحل بعد عمر طويل من العطاء، وخلفه سوف تذكره الألسن وتكتبه المقالات وتصدح على اسماعنا روائعه الخالدة من «يا قارئ سورة النساء» الى «الممرضة «مرورا بـ»يالقمري»، «نبغيك نبغيك» وصولا الى «نجمة قطبية طلت غير عليا».
رحل درياسة الى العلياء باحثا عن نجمته القطبية، في رحلة برزخ ازلية، مرتديا كفنه الأبيض، يشبه في لونه مئزر الممرضة التي خلدها ذات يوم «يقولها الممرضة هي داوي في المرضى وحبييها مجروح»، رحل ابن الوريدة تاركا خلفه «عربان رحالة» يذكرونه بالخير، في «توبة» صافية كالسماء.