يروي الشّيخ عبد الرحمن الجيلالي رحمه الله، أنّ هيئة إدارة جريدة الشعب الثّقافيّة، التي كان يترأّسها الرّوائي الكبير، المرحوم طاهر وطار، اقترحت عليه أن يساهم في تحرير عدد خصّصته للاحتفال بالذكرى العاشرة للاستقلال التي وافقت، آنذاك، بلوغ مدينة الجزائر ألف سنة منذ تأسيسها، فاقترنت المناسبتان، ولم يكن لـ «العميدة» أن تفوّت فرصة إسهام رجل من أعلام الوطن في إثراء العمل بجهوده المنيرة، وهو الفقيه النّاصح، والأديب الأريب، والمؤرّخ الورع، فكانت النّتيجة كتابا ما يزال إلى يومنا هذا أهم مرجع عن تاريخ مدن الألفية: «الجزائر، المدية ومليانة»..
لا يتوقّف تاريخ أي واحدة من المدن الثلاث التي تولاّها الشيخ عبد الرحمن الجيلالي بالدّرس عند ألف سنة، وهذا يؤكّده الشيخ الجيلالي نفسه، فالألف سنة التي سجّلت عام 1972، «إنّما تعبّر عن بداية حقبة بارزة وظاهرة مبشّرة، ولها مع ذلك وزنها ومعناها العميق أيضا»، فالمدن موضوع الكتاب راسخة في التّاريخ، وكان لها حضورها القوي في أحداثه، وهذا ما عمل الشيخ عبد الرحمن الجيلالي على توضيحه، كي يحتفظ للمدن بأصالة تاريخها من جهة، ويستعيد أيام الأمجاد دون تأثير على الوقائع التاريخية، وإبقائها ناصعة تلقي بأنوارها إلى مستقبل الشعب الجزائري.
المقال الفاتح..
لم يتمكّن الشيخ عبد الرحمن الجيلالي من الإسهام في أول عدد خاص لجريدة «الشعب» الصادر يوم الجمعة، الخامس من جويلية 1972، وقال إنّ «الإخوان انتظروا المقال إلى أن أذن الله بإنجازه، فنشروه (...) في العدد الثالث للسنة الأولى من «الشعب الثقافي» الذي صدر يوم الخميس 20 جويلية 1972، تحت عنوان: «مدينة الجزائر عبر التاريخ».
صدر مقال الشيخ عبد الرحمن الجيلالي بـ»الشعب الثقافي»، فتلقّاه القرّاء بترحاب واسع لما تضمّن من معلومات تاريخية هامّة، ومآثر سامية كان النّسيان قد زحف عليها، فلم يكن الشيخ يلتقي بواحد من قرّائه، إلا ويقترح عليه أن يتوسّع في البحث، خاصة وأنّ أسلوب الشيخ كان يبعث في النّفوس الرّغبة في الاستزادة، ويحفّز في القلوب محبّة المعرفة، ولقد اقترح عليه كثيرون أن يدرس مدينة الجزائر من مختلف نواحيها، وأن يتعرّض إلى «تخطيطها وهندستها، وذكر معالمها وبيوت العبادة منها، ودورها وأشكال منازلها، وصناعاتها، وحركتها السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وذكر تقاليد أهلها، وعدد سكّانها ومن تعاقب عليها من الحكام، وعلاقتها – هي خاصة – بالخارج، ونظمها ومجرى الحياة العامة بها»، واقترح الجميع أن يصدر العمل في كتاب مستقل تخليدا لذكرى الألفية وذكرى عيد الاستقلال العاشرة.
أيقظ مقال الشيخ عبد الرحمن الجيلالي فكرة لها أهميّتها القصوى بالنسبة لتاريخ الجزائر، فقد نظر في آراء قرّائه وأصدقائه، فأجلّ مقترحاتهم وأكبر أقدارهم، ولكنه – في المقابل – لم ير في الأمر مجرّد صياغة لأحداث تراصفت على محور التاريخ، وإنّما كان الأمر متعلّقا بعمل يقتضي كثيرا من الجهد وكثيرا من الصبر، فالتّأريخ لمدينة بعظمة الجزائر مسؤولية ثقيلة كما يقول الشيخ الجيلالي، وقد أيقن أنّ «عملا كهذا ليس هو من عمل الأفراد، وإنّما هو عمل تقوم به ادوات وهيئات وجماعات من أهل الخبرة والاختصاص في كل ناحية، وكلّ فرع من نواحي هذا البحث الطّويل وفروعه المتشعّبة».
علم الشيخ الجيلالي أنّ المسألة تتعلّق بمنهج رصين يجب اتّباعه، وأنّها تحتاج إلى فريق بحث كامل يستعيد للمدينة بهاءها، ويستخرج مآثرها، ويضع بين أيدي أبنائها ما يمكّنهم من بناء المستقبل، فلم يجد خطوة منهجية أفضل من المبادرة بجمع ما توصل به من «أهمّ وأخصب ما خطّته أقلام نخبة العلماء من الأستاذة المعاصرين (...) وحبّره الكتاب العرب المعنيّون بشؤون التاريخ وحقوقه (...) وبحوثهم المنشورة على صفحات المجلات العلمية، وما ألقوه بأنفسهم على منابر النّدوات والملتقيات الثقافية، بالإضافة إلى ما نشر على صفحات «الشعب الثقافي».
كانت هذه أوّل خطوة منهجيّة وضعها عبد الرحمن الجيلالي على مسار بحث أنتج للمكتبة الجزائرية مرجعا ما يزال شاهدا عن عبقرية رجال جزائريّين عاشوا بالعلم وللعلم، لا يلهيهم شيء عن رسم الأفق الأجمل لأبناء وطنهم، وهكذا اجتمع العمل الذي سيكون أهمّ إضافة إلى المكتبة الجزائرية في ذكرى ألفية الجزائر، المدية ومليانة..
منبر التّاريخ
أدرك الشيخ عبد الرحمن الجيلالي أنّ التاريخ له فعله المبين في بناء المستقبل، ولقد سجّل ذلك صراحة في مقدّمة الكتاب التي ختمها قائلا: «ألا ما أجمل شعبا يحفل ماضيه..يحفل بآثاره وتراثه ومأثوراته، ويحتفي بالحاضر في سبيل بناء مستقبل زاهر وزاخر بأزهى وأفخر ما تباهي به الشعوب لتحيا حياة سعيدة في سلام وتمدّن ولتحيا الجزائر»..
واضح أنّ هذه الرّوح التي تصبو إلى الأفضل، ويلملم خيوط النّور كي يجعلها نبراس هداية أمام أبناء الجزائر، هو الذي حرّك العمل على وضع المرجع بين أيدي الباحثين والقراء على حدّ سواء، فصاغ الشيخ الجيلالي، أولهما، المقال الفاتح الموسوم بعنوان: مدينة الجزائر عبر التاريخ»، وأضاف مقالا ثانيا وسمه بعنوان: «الجامع الكبير بمدينة الجزائر – معماريا وتاريخيا»، فجاء بكل ما يتعلّق بهذا الجامع الرّمز الذي ظلّ عنوانا بارزا للمدينة الصامدة، وكان من فضل الشيخ عبد الرحمن الجيلالي أن ضمّن مقالا فارها لأستاذه العلاّمة محمد بن شنب، موسوم بعنوان «الجزائر»، وهذا مقال كان قد نشره بن شنب بمجلة المجمع العلمي العربي الصادرة بدمشق في 1929، وأعادت نشره «الشهاب» القسنطينية في نفس العام، إضافة إلى بحث ثان عنوانه: «نظرة إجمالية في تاريخ مدينة الجزائر»، وهو البحث الذي نشر في القسم التاريخي من التقويم الجزائري لسنة 1912، ولقد أدرجه الشيخ عبد الرحمن الجيلالي في كتابه: «ذكرى الدكتور محمد بن شنب» المنشور بالجزائر عام 1933.
وتضمن كتاب الشيخ عبد الرحمن، بحثا وقّعه أستاذ كليّة الآداب بجامعة الجزائر، الدكتور عبد القادر حليمي الذي تحدّث عن «أثر التّضاريس في تخطيط مدينة الجزائر»، ومقالا آخر بعنوان: «أصول النّشأة لمدينة الجزائر»، ولم يستثن الشيخ الجيلالي أي ورقة عمل مهمّة، فنشر مقالا للمؤرّخ الفرنسي جورج إيفر (Georges Yver) نشر نصه العربي بدائرة المعارف الإسلامية، كما نشر ما كتب عن مدينة الجزائر من نصوص عربية وأجنبية بداية من مسالك ابن حوقل وممالكه، مرورا بكتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم «لشمس الدين المقدسي وكتاب «المغرب» لابي عبد الله البكري، وما ذكر أبو عبد الله الإدريسي في «الاستبصار»، والعبدري في «الرحلة المغربية» وأبي البقاء البلوي في «تاج المفرق بتحلية علماء المشرق»، وأبي عبد الله بن زاكور في «نشر أزاهير البستان»، وآخرين كثيرين تولى العناية باختيار نصوصهم والتعليق عليها الأستاذ مولاي بلحميسي، فكانت إضافات هامة تضع بين أيدي الباحثين أهمّ المراجع في تاريخ المدينة جاهزة، بالإحالات المرجعية، وكل مقتضيات أي جهد معرفي جديد، يقصد إلى الإضافة.
واحتفظ الشيخ عبد الرحمن الجيلالي بخطتّه المنهجية في معالجة المادة التي تخص مدينتي المدية ومليانة، فافتتح بعمل بحثي للأستاذ المهدي البوعبدلي وسمه بعنوان: العيد الألفي للجزائر والمدية ومليانة وحياة مؤسسها بولوغين بن زيري، وكان هذا المقال محاضرة ألقاها الأستاذ البوعبدلي في الملتقى السادس للتعرف على الفكر الإسلامي، الذي انعقد بقصر الصنوبر في العاشر من أوت 1972، إضافة إلى مقالين للأستاذ مولاي بلحميسي أولهما لمدينة مليانة، والثاني لمدينة المدية عبر العصور، ومقال متميّز للشيخ الأستاذ محمد المختار إسكندر خصّصه لتاريخ مدينة المدية بداية من عهد الرومان إلى غاية الاستقلال.
بين يدي الكتاب
تاريخ المدن الثلاث للشيخ عبد الرحمن الجيلالي، فكرة انبثقت بـ «الشعب الثقافي»، واعتنت بها قلوب تنبض بأمل يشرق في سماء الوطن، فأينعت، وأزهرت، وتحوّلت إلى كتاب فخم يحفظ للمدينة الجزائرية مآثرها وأمجادها على مدار التاريخ..كتاب يكفي المقتصد، ويفتح الآفاق أمام المجتهد، فهو ذخيرةٌ للقارئين، ومرجعٌ للباحثين، وهو فوق هذا كلّه، نموذج جزائريّ فذّ عن الروح المتوثّب إلى المعرفة..
رحم الله الشيخ عبد الرحمن الجيلالي، وجزاه عن الجزائريّين جميعا خير الجزاء.