تقف الجزائر في 23 جويلية الجاري بكل آيات العرفان والتقدير، في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الفقيد، المجاهد، المناضل والوزير والأستاذ والمدير والفنان الموهوب الأمين بشيشي، لنستحضر في صفحة من صفحات الزمن شيء من آثاره وقبس من مسيرته الوطنية في حقول عديدة دامت أكثر من سبعين عاما من العطاء والعمل في مسرحية الحياة التي خاضها رفقة زمرة من المخلصين والشرفاء لأرض الجزائر.
في مثل هذا اليوم ودعنا الراحل الأمين بشيشي إلى مثواه الأخير، ودعنا الرجل الذي ترك إسهامات جليلة في شتى الميادين، تاركا بصماته الرائدة في مجال التربية والنضال والسياسة والفن والموسيقى، لاسيما بصماته التي مازالت وستظل شاهدة على مرور أثره الطيب، من شخوص واكبت عصره ورافقت مجده المستمد من نداء الوطن الذي لن ينسى اسمه وكل من سجل اسمه بحروف من ذهب وألماس على جبين تاريخ الذاكرة الوطنية.
ولد الأمين بشيشي في 19 ديسمبر 1927 في سدراتة، ولاية سوق أهراس تابع دراسته الابتدائية بمسقط رأسه والمتوسطة بتبسة.. تتلمذ على يد بعض من أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. بدأ مسيرته الإعلامية عام 1956، حيث سافر إلى تونس لإصدار الطبعة الثالثة من جريدة «المقاومة الجزائرية» التي كانت تصدر في باريس، وتطوان، ومدينة تونس، انتقل بعدها للعمل في جريدة المجاهد، ثم إذاعة صوت الجزائر، حيث اشتغل جنباً إلى جنب مع عيسى مسعودي إلى غاية عام 1960.. بعد الاستقلال عام 1962، تمّ تعيينه مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون الجزائري، كان أحد الأعضاء المؤسسين للأكاديمية العربية للموسيقى عام 1971، اختص الأمين بشيشي في كتابة أغانٍ عديدة للأطفال. ألف موسيقى برنامج الحديقة الساحرة، الذي كان يقدم في التلفزيون الجزائري، كما لحّن شارة البداية والنهاية في مسلسل الحريق الذي انتح عام 1974 تولى بعدها إدارة المعهد الوطني للموسيقى.
عيّن مديرا عاما للإذاعة الوطنية بداية من عام 1991، ثم عيّن بعدها وزيرا للاتصال.
وفي مجال النضال السياسي والدبلوماسي تولي مهمة ملحق ثقافي وإعلامي بالبعثة الجزائرية في القاهرة من 1962 - 1960، ثم رئيس مكتب الحكومة المؤقتة في بنغازي وكان قبل ذلك مذيعا بصوت الجزائر بتونس وسكرتير تحرير المجاهد،.. أما بعد الاستقلال فقد كان قائما بالأعمال في القاهرة 1986 - 1988، ثم سفيرا للجزائر بالخرطوم 1988 - 1989.
إنتاجه الفني.. رصيد لا ينضب
لحن الراحل النشيد الخالد «شعب الجزائر مسلم»، كما ترك زخما من الأناشيد الوطنية جمعها في كتاب مرجعي بعنوان أناشيد وطنية، وعندما نقف عند منعطف الأناشيد الوطنية لابد أن نستذكر لحن النشيد المدرسي المرفوق بتلك اللحظات التي تصاحبها القشعريرة عندما نهتف بكل تأثر مدرستي حان الرحيل وآن أن نفترقا.. هيا نردّد يا زميل إلى اللقاء إلى اللقاء، كما أشرف على تأليف فواصل موسيقية تصويرية لعدة أفلام ومسلسلات من بينها المسلسل الرائع «الحريق»، بالإضافة إلى وقوفه وحرصه على حيثيات جينيريك برنامج الأطفال «الحديقة الساحرة» الذي كان يبث على التلفزيون إلى جانب توليه انجاز أوبيرات إذاعية مازالت تتصدّر ومضات أرشيف الإذاعة الوطنية.
وفاته.. والشوق باق لا يغيب
رحل الأستاذ الأمين بشيشي عن الحياة في 23 جويلية 2020، عن عمر ناهز 93 عاما في جو مهيب، ولحظات حزن وبقلوب راضية بقضاء الله وقدره، رحلت روحه الطاهرة بعد أن أودع رصيد نضاله وخدمته لتراب الوطن في أياد آمنة، كلها عزم لاستكمال مسيرة البناء تحت ظل رؤى ومعالم الجزائر الجديدة.
قالوا في ذكرى رحيله الأولى
المؤلف والمؤرخ الشيخ محمد الصالح الصديق
توثقت عروة المحبة بيني وبين الراحل الأخ الأمين بشيشي حيث كنا أيام الدراسة بجامع الزيتونة بتونس في أواخر الأربعينيات نقاوم الجهل، ونواجه حياة كلها بذل وعطاء من جهدنا ووقتنا، وكلها أمل مشرق في غد مورق أزهاره،عطره وثماره وقطوف دانية.
وكنت أرى الأمين كل يوم يفيض أملا مشرقا في هذا الغد المضيء وفي ظلّه الوارق وكان إذا حدثني عنه أشرقت على محياه بسمة عبر عنها بكلمات حارة صادقة، فيها الجمال والجلال وفيها الصدق والإخلاص.
ثم جمعت بيننا الثورة التحريرية التي انتزعت من الاستعمار الغاشم الظالم سيادتنا وأعادت إلينا مجدنا.
بعد الاستقلال كان الأمين يفرش حياته في طريق وطنه فإذا إلتقيته نطقت الجزائر لجدارة الصدق والوفاء بطمأنينة القلب وانشراح الصدر وانفساح الأمل من غد الجزائر المضيء.
ولمكانته المتميزة في قلبي أهديت له أعمالي الكاملة التي تقع في واحد وخمسين مجلدا وحملها إليه الخطّاط القدير محمد حموش الذي كان يضمر له حبا وتقديرا، ولما وضعها أمامه وقف الأمين برهة مركزا بصره فيها ثم تنهد، وقال: هل أنا جدير بكل هذا الكنز النفيس؟
وكان يزورني في البيت ونتفرغ وقتنا للحديث عن الجزائر في ماضيها المظلم تحت هيمنة الوحش الضاري وحاضرها الواعد بمستقبل مشرق يتحقق فيها أمل الشهداء.
وقبل انتقاله إلى العالم الباقي بأيام قليلة حدثني الأخ الخطاط محمد حموش على عزمه على زيارتي في البيت وأعلمته أنني أنا زائره لظروفه الصحية فأبى مصرا إلا أن يكون هو الزائر لي وشاء القدر أن يكون الرحيل أن لا يكون اللقاء.. وهكذا قالها لسان حال الموقف في ذات الصدد: خرست لعمر الله ألسنتنا……لما تكلم فوقنا القدر.
نجلته.. الإعلامية وفاء الأمين بشيشي
لازالت رائحة مسكك تعبق المكان
لازال صوتك الرخيم في الأذان
لازلت أبحث عن طيفك في كل الأركان
رحلت عن هذا العالم فلم يبق لي مرشد ولا عنوان
أدعو الله أن يصبرني على فراقك لأنني أعي حرقة الاشتياق
ولأنني أحبك يا والدي فأدعو الله أن يتغمد روحك الطاهرة
كم وددت لو كنت معي اليوم يا والدي
مركبك يبتعد شيئا فشيئا ليترك حنينا وشوقا
دخلت البيت متناسية انك رحلت
فوجدت نفسي أكلم أغراضك
التي لم تتوقف عن السؤال عنك
لأجيب فنجان القهوة انك لن ترتشف بنك المفضل
ولنظاراتك انك لن تقرأ الصحف ولن تشاهد برامجك المفضلة
ولمكتبتك التي لم تنته من ترتيبها
كل شبر في البيت يبكيك يا أبي
أشتاق للحديث إليك يا أبي
كل شبر في البيت لا يزال يعبق برائحتك الزكية يا أبي
سنة تمر على رحيلك تبدو وكأنها ايام معدودات
مشاعر الفخر والاعتزاز ممزوجة بألم الفراق وأنا أشارك بهاته الأسطر ذكرى وفاتك.. رحمك الله يا غالي
أدعو الله ان يلهمني الصبر لفقدانك يا أبي
وادعوه أن يرحمك ويسكنك جنات الخلد يا أبي
نم قرير العين يا أبتي وتأكد انني لن أحيد عن مبادئك
حتى موعد اللقاء
الخطاط محمد حموش
تعرَّفت على الأستاذ الراحل الأمين بشيشي المحترم، بل الموقَّر، في أواخر سنة 1996، بعد فترة مسؤوليته على رأس وزارة الاتصال، وذلك عندما استقبله مدير الديوان الوطني لحقوق المؤلف ليلتقي بالموسيقار الراحل المايسترو عبد الوهاب سليم الَّذي كان عضوًا معنا بلجنة التراث الوطني المتكوّنة من شخصيات ثقافية غنية عن التعريف، أمثال: الأساتذة محمد الأخضر السائحي، عثمان بوقطاية، بوجمعة فرقان، الحبيب حشلاف، وعضو الشرف فضيلة العلامة الشيخ عبد الرحمان بن محمد الجيلالي والقائمة طويلة. «رحمة الله عليهم جميعا».
ومن هنا كان الأستاذ الأمين بشيشي (من باب التواضع يرفض أن نُناديه ب: صاحب المعالي أو سيدي الوزير، بالرغم من أنه يستحقّ هذا اللقب)، كان يتحدّث مع الأستاذ عبد الوهاب سليم حول صحّة بعض الأناشيد الوطنية القديمة لتُكتب على المدرّج الموسيقي ومن حين لآخر يتدخّل الشيخ عبد الرحمان الجيلالي ليصحّح تاريخ تأليف ذلك النشيد وأشياء أخرى حتى ولو تصحيح أداء بعض أطراف جُمل الموسيقية المنسية أو الَّتي ضاعت، وسُبق أن ذكّر الأستاذ بشيشي هذا المشهد في كتابه للأمانة.
حينئذ اقترح له أستاذي عبد الوهاب سليم، وأنا بجواره، وللتذكير كنت تلميذا له آنذاك، أن استعمل وظائفي الخطية لتزيين كتابه كعناوين وكتابة صفحات الموسيقى بالخط. إذن هنا كانت بدايتي مع الأستاذ الأمين بشيشي، وكان لي شرف كبير جدًّا أنّي كنت معه طوال تأليف الكتاب وخاصة كان يستقبلني بمنزله.
أذكر أنه ذات يوم وأنا بمكتبي (الديوان الوطني لحقوق المؤلف) بعد انتهاء الأعمال الَّتي طُلِبت مني انجازها، أخذت محفظتي لألتحق به لكي ينقلني بسيارته إلى منزله لمواصلة عمل تأليف كتابه «أناشيد للوطن». في ذلك الحين كان ينتظرني خارج المؤسسة في سيارته. وعندما اِلْتحقت به حوالي نصف ساعة قبل وقت نهاية العمل، فنظر إلى ساعته ثم ابتسم في وجهي قائلًا: «يا محمد يا ولدي. عُد إلى عملك لتُكمّل ما تبقَّى من وقتك القانوني، إنِّي في انتظارك». في تلك اللحظة تعلَّمت منه معنى - الانضباط - إنه حقًا لأمرٌ عجيب، لأنه بإمكانه كان قادرًا على أن يطلبني عن طريق مدير المؤسسة الَّذي يُكنُّ للأستاذ الأمين بشيشي الاحترام بكل وقَّار. ولكن ترك نفسه سجّينا لأخلاقه حيث تنبع منها المعاملة الطيبة والمبادئ الَّتي يجب على الإنسان أن يتميَّز بها.
- حدَّثني يومًا عن الفترة الَّتي قضاها كوزير الاتصال (1995)، موضوع العلاقة بين مسؤُول أوَّل والموظَّف، حينها عند وصوله إلى مدخل المؤسسة، قبل دخول مكتبه، كان (من حين لآخر) يطوف بمختلف مصالح الوزارة ليتفقَّد سير العمل وأحوال الموظفين ويُسلِّط الضوء على كل الإعاقات حتى تتحصَّل مسؤوليتُه على الطُّمأنينة التامّة. ومن هنا تعلَّمت منه وهو يقول: «على جميع من يتولَّى مهَام المسؤولية في مؤسسات الدولة، يجب عليه أن يتصرَّف فيها كأنَّه مُلك له من باب حب إتقان العمل، ومن جهة أُخرى يجبُ أن يعتبر نفسه ضيفًا عابرًا احتراما للمؤسسة». وأنا بدوري أظنُّ أنَّ هذا المبدأ يجب أن يُغْرس في أعماق قلوب جميع الإطارات.
كان رحمه الله دائما يطلبني كخطاط لتزيين ملفَّاته الَّتي يُقدِّم بها الثقافة الفنية الجزائرية أثناء التظاهرات السنوية الَّتي يُنظِّمّها المجمع العربي للموسيقى بالقاهرة أو بعاصمة عربية أخرى، أذكّر هنا أنه كان نائب رئيس المجمع، وبعد وفاة رئيسة المجمع آنذاك (الدكتورة رتيبة الحفني)، انتُخب الأمين بشيشي بالإجماع ليحل مكانها، ولذا أصبح رئيس المجمع العربي للموسيقى جزائريًا والكثير يجهلون ذلك. وهنا أريد أن أُذكِّر بأن الفنون الجزائرية بمختلف ألوانها ومناطق وجُودها قُدِّمت ليصل صداها عبر العالم العربي بفضل «الأمين بشيشي»، وبعدما سألته عن الإعلام الَّذي كان من واجبه أن يُخبرنا بهذا الشرف الَّذي حضينا به فأجابني بكل تواضعٍ: «ما يهمُّ جزائريَّتي أنَّ تراثنا الآن يتجوَّل بافتخار خارج الوطن».
كان مثالا للتواضع والرقي، فمن قوَّة التواضع، أبلغت الأستاذ بشيشي يوما تحيات وسلام من طرف الفنان القدير الشريف خدَّام بعد خروجه من المستشفى، إلَّا وأن طلب مني لأقله بسيارتي لزيارته، وبعد ما أخبرت «الدَّالشريف» بذلك قال لي: «كان مديرا مثاليا لنا بالإذاعة، لولا هذا المرض الَّذي ألزمني المكان، لرافقتني أنت عنده. إذن فليختار الوقت الَّذي يُناسبه فمرحبا». وبعد ذلك في اليوم التالي كما وعَدْتُهما، الْتقَيَا وتحدَّثا طوال ساعتين أو أكثر حول مستوى الفن ما بين الماضي والحاضر وكل ما يتعلَّق بمستقبل الفن الجزائري ومن حين لآخر يسترجعان ذكريات الماضي بشوق وحنين.
- ومن باب احترام المواقف، من عاداته يُقدِّم شهادة أو إهداء إلَّا لمن يستحقُّ ذلك. ولأجل ذلك سألته يوما عن الاسم المستعار للفنانة القديرة «نوارة» الَّتي رافقت الأستاذ الشريف خدَّام طوال مشواره الفني باسم «فيروز الجزائر»...؟ فابتسم وقصَّ عليَّ ما يلي: «يومًا بالرواق الإذاعة التقيت بها وذكَّرتها بأنني كنت حاضرًا عندما غنَّت ثُنائيا مع الشريف خدَام في مقام الرست الصعب الأداء، وحنجرتها تُطْربنا بالصوت الرفيع صعودا ونزولا. ثم أمسكت بيدها وقلت لها: يا سيدة نوارة من اليومَ فصاعدًا أنتِ هي (فيروز الجزائر). والكثير من مُحبِي نوارة يجهلون مَنْ وراء هذه التسمية.