فـي الذّكرى الأولـى لرحيل النّاقد

الأستاذ شريبط أحمد شريبط:

بقلم: جمال فوغالـي

 عاشـق الأدب الجــــزائــري

 ...لعلّك الآن مقيم في ملكوت الإبداع، يا أحمد العربي، لعلّك الآن تكتب سفرك الأبهى عن كاتب أو مبدع جزائري لأنّني أعلمُ علم اليقين أنّك نذرت نفسك وقلمك للكتابة عن الأدب الجزائري: قصّة ورواية وشعرا وشخصيات وتحقيقا لكثير من المخطوطات، ولعلّ أبرزها مائة ليلة وليلة وأنت تريني مخطوطها مُذهبا يسرُّ النّاظرين، قبل أن يتم نشرها، ولعلّ أبرز الشخصيات الإبداعية التي أعدتها للحياة السّيدة المقيمة في هذي الكتابة زليخة السعودي التي أخذت من وقتك وعمرك ما لا يستطيعه أولو العزم من الرجال، ولعلّك ما تزال وأنت الآن تقيم في الأبدية، هذا البرزخ، قلبي وهو يتذكرك، وهل نسيك، وهذا رقم هاتفك ما يزال محفوظا بهاتفي وجوارحي، هأنذا الآن أكتُب ذكرى رحيلك الأولى، هل رحلت، تُـــسائلني، منذ متى رحلت وقد هاتفتُك البارحة وأنت معي بمعرض القاهرة الدّولي للكتاب، وكلما تحركت بين أجنحة المعرض، إلا وأنت معي، كأنما أحدثك، بله إني أحدثك، وأنت إلى جانبي من جناح دار نشر إلى دار نشر أخرى، هذه العناوين تحتويني، وكأنّما تدلني إليها كما أصطفيها، أنت الذي لم تحبب في حياتك غير هذه الكُتب وسوى لينا ابنتك وقد نجحت في امتحان البكالوريا، وقد جاءت تسعى من بُونة البهية التي نعشقها معا لتستلم وسام استحقاقك الثقافي الذي منحك إياه فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة بعدما تمّ اقتراحك من قبل معالي وزير الثقافة السيد عز الدين ميهوبي، وكم كانت سعيدة، مُمتلئة بفرح كُبّار وهي تلتقي اسمهان ابنة الكاتب الصديق الشاعر بختي بن عودة، وهما معا تتطاوسان باسميكما العارفين اليفيضان بفيض ما تكتبان، فبأيّ آلاء ما تبدعان: هذا الشعرُ والنّقدُ والفكرُ والفلسفةُ...
هل يمكنني أن أنسى عيادتي لك وأنت الأكثر من عشريتين تعاني القصور الكلوي، وأنت بين المستشفى والعيادات الطبية مبتسما في كبرياء الكاتب الفارس لآلة تصفية الدم، وظل قلبك صافيا كأنه الماء النمير يجيء من عين قشرة رذاذا مندى بالعطر والياسمين، يا لذة هذا العطر، هذه العذوبة، وأنت تُقدّمني لأول مرة وقد كنت غضا، في حوار مطوّل في بداية مشواري الإبداعي بجريدة النصر، وقد كانت زربية موشاة بألوان قوس قزح، وقد رافقتني مرافقة الأخ الذي لم تلده أمي حتى استوى قلمي على سوقه، هذي لغتي أنثاي التي ليس لي سواها، سيان هما معا لغتي وأنثاي، هذي الأعمال الإبداعية في القصة والنصوص والنقد والدراسات، هذي المقالات، أراني الآن سعيدا بها، مفاخرا بها جيلي وغيره وقد كان لك يا أحمد قصب السّبق في التعريف بها وتقديمها للقراء عبر الصحافة الوطنية والعربية سواء بسواء.
هذه الآن وصيّتك تنهض نهوضها العارف وقد قامت عليها زوجك المصون، وقد أتمّت جمع ما تحتويه مكتبتك العامرة وقد تجاوزت الثلاثين ألف كتاب، وهذه المجلات التي كنا نقتنيها سوية تجد طريقها باتجاه المكتبة الوطنية الجزائرية لتكون بين يدي أبناء الأمة كلّهم، وقد أحببت هذه الأمّة مدرسا بالجامعة وأنت تدافع عن كتابها ومبدعيها وتنافح عنهم بالبحث والدرس والقراءات داخل الوطن وفي المحافل الأدبية العربية من تونس إلى القاهرة ومن دمشق إلى بيروت صوتا جزائريا أصيلا متجذرا في التاريخ، مقيما فيه معتزا به وأنت المفرد بصيغة الجمع، هذا همسُك يجيئني الآن وأنت تردّد «يا جمال الحنش على ركبة وابنة السُلطان على ركبة وأنا لا أقوى على السكري وضغط الدم، وهناك من لا دم له».
أهاتفك سعيدا بك وقد غادرت بونة العاشقة والمعشوقة في آن كيما نلتقي كلما عدت إليها أستريح من وعثاء الرحيل عند كورها الأعظم، المصب البيضوي، استراحة العشاق والمتيمين، جنّة الفاتنات وهن يتمايسن إذ يعطرن الفضاء بجمالهن وقد تطهرن بماء البحر، نتحلّق أنت وعبد الحميد شكيل وأنا عند المقهى الأثير لدينا، مقهى بالرابح رحمه الله، ونخوض خوضنا في الكتابة والإبداع، والذّكريات الخوالـي وأنت مُنهك القوى، شاحب الوجه، زائغ العينين، مليئ بالحياة وعند المغادرة تقف متثاقلا والعصا بيمينك وعبد الحميد وأنا عن يسارك، هأنتذا تستقيم في وقفتك، أنت المستقيم أبدا، تتوقف سيارة الأجرة صفراء فاقع لونها والتي ستقلك إلى مسكنك عند أقاصي الجسر الأبيض، قلبي، إذ تتكئ على جبل إيدوغ: عرينك والمكتبة المحراب.
يا أحمد الأنقى، هذا رحيلك بداخلي
السلام عليك في ملكوت السلام
السلام عليك يوم ولدت ويوم كتبت ويوم أحببت  السلام عليك يوم التقينا ولمّا نفترق
والسلام عليك مقيما في بهاء الأبدية...
 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024