إن الانسان المستهلك إنسان مسكون بالخوف الذي أفلحت وسائل الإعلام في صبَّه في وعيه، من خلال ألوان الفظاعة التي تعرضها صباح مساء. لقد أفلحت في أن توجد خوفا متأصلا من الآخر، تُسكنه في سويداء القلوب غامضا بشعا، يمكنه أن يُستنفر كل حين، ليثمر ما تصبو إليه من معارك، وصراعات، وتوترات.
لقد أصبحنا نخاف من بعضنا بعض، يخاف الأخ من أخيه، ويشك الأب في أبنائه، وتتوجّس الزوجة ريبة من زوجها. لقد استوطن بيننا خوف دفين لا نعرف كيف تسلل إلينا، وكيف أزم بنيتنا الذاتية، قبل أن يسمم لحمتنا الاجتماعية، وأصبحنا عرضة لأمراض جديدة، ما كنا نسمع عنها من قبل، وأصبحت أشكال الموت فينا، وألوانه غريبة الوقوع، غريبة الوقع، نسارع بالجثث إلى المقابر لنعود مرة أخرى إلى مخاوفنا الدفينة. نتبادل النظرات في حذر، ونحن في الشارع والحافلة، وفي صالات الأطباء والنفسانيين.
ثمة شيء بشع يصعد إلى السطح، لم يفلح الرائي الذي أمَّلنا أن يرشدنا إليه قبل استفحال أمره، وأن يخبرنا به. لقد انهمك الشاعر فينا في دوامة نرجسياته وخواطره، وسجن نفسه في دائرة همومه الصغيرة التي يحسبها أنها العالم الفسيح من حوله. إني أراه ينتحر وحيدا بكلمات مهترئة يعيد تكرارها في كل نص، وسجن الرسام نفسه في دوامة من الألوان والأصباغ والأشكال، يهشم فيها حقيقة العالم وتناسقه، ليعيده كابوسا في لوحات، معتم القسمات، حاد التقاطيع، مسنن الأطراف، ثم يزعم أنه بفنه يعيد فهم العالم وإخراجه في خطابات لها دلالتها التي غابت عن الإنسان زمانا، وهو لا يدري أنه يقدم البربري في أقبح صوره. وسجن الروائي الذي يُسوِّد الصفحات بعد الصفحات، بثرثرة وهذيان لا نظير له في كناشات الفحص النفسي، فأحسب أنه يُجلس نفسه أمام مرآته في غرفته الضيقة، ليرفع صوته بالضجيج الذي يسكنه، فلا يعرف كيف يفرق بين أصواته فيرسلها معا تتكور عبر الصفحات والفقرات كما يتكور الضجيج ملفوفا في غيمات الدخان في مقهى ضيق. إنّه يتوهّم أن الكتابة ستساعده على فك خيوط الغزل المتعاقدة، فحكايته ليس لتسلية الآخر ولا للتأثير فيه، إنّها حكايته لنفسه، ليتأكد أنه قادر على أن يتكلم بكلام يفهمه هو قبل غيره، على الأقل.