ها نحن نبدأ قرنا جديدا.. قرنا نعلم أنه لن يكون لنا فيه إلا المزيد من التشرذم، والتدابر، والتناحر.. وأن الوطن العربي مريض في جملته، لمرض الأوطان العربية واحدا واحدا.. ونشعر برياح الغرب تهب عاصفة من كل الجهات، تقتلع الجذور، بعدما كانت تكتفي بنتف أوراق الأصالة وحتِّها، أو تعرية بعض التربة المنابت وجرفها. إنّها اليوم لا تكتفي بذلك في ظل العولمة والعلمانية، لأنها تريد عالما آخر غير الذي ألفناه.. عالم تكون السيادة فيه بيدها، ويكون الخنوع، والخضوع، والتبعية، للبقية الباقية سواء من رضي بصبغتها وألوانها، أو من لم يرض بذلك، وحاول التشبث بما بقي له من جذور، يسمع فرقعتها وهي تتحرك تحت قدميه شدا واجتذابا. إنه أمر واقع لا محالة، ندرك من خلاله رغبة الآخر في الهيمنة والاستعلاء والانتشار. لأنه يحمل مشروعا توسُّعيا لا يرى لوجوده من داعم إلا من وراء تحقيق ذلك الاكتساح الواسع للشعوب والثقافات. ومن ثم نجد نُخَبه في المحافل والجامعات، تعمل على توطين هذا المشروع في النفوس، وتسويقه في المحاضرات والدروس، حتى تبلغ به رُتَب التحضُّر والحضارة التي يجب أن تسود، والفكر الذي يجب أن يقود.
لكن الذي لا يُفهم اليوم، ولا تتضح حقيقته بجلاء، أن تجد نخبنا المثقفة مندرجة في هذه الهرولة الثقافية التي تساعد الآخر في تحقيق مشروعه، باسم حرية الرأي طورا، وباسم الرأي المختلف أطوارا أخرى. فجعلت النخب ما كان في مجتمعاتنا واقعا طبيعيا يتعايش الناس حوله دون أن يثير فيهم المخاوف والتشنجات، أمرا خطيرا يكاد يتفجر كل حين، إن أساء أحدهم الفهم، أو الاستعمال.. ها هم اليوم ينظرون إلى التاريخ، واللغة، والوطن، والهوية، والانتماء، والدين.. نظرة المتشكك الذي ينقِّب في مزابل التاريخ، عن فتنة، أو وقيعة، أو خبر يرفعه، وكأنه قد عثر على كنز ثمين.. وها هم يتخذون من الهويات ذريعة، يلوحون من ورائها بأسباب الفرقة والانفصال.. فأنت لا تقرأ مقالا في جريدة، ولا نصا في رواية، ولا تستمع إلى حديث، إلا تناهى إلى سمعك شيئا من هذا أو ذاك.. فهل مكتوب علينا في مطلع هذا القرن أن تكون نخبنا المثقفة رأس الحربة التي يَطعن بها الآخر وحدتنا وأمننا؟..