لنأخذ من الحياة أربعا: الطبيب، الاقتصادي، السياسي والناقد..فإذا جئنا نحاسب كل واحد منهما على عمله، فإنه يتوجب علينا أن نفهم أولا قاعدتي المسالك والنتائج.. ومعنى ذلك أنه يتوجب علينا أن ننظر في المسالك التي اتخذها كل واحد منهما للوصول إلى النتائج التي يعرضها علينا في نهاية المطاف. ومن ثم سيكون حكمنا على كل منهما حكما سليما، أو على الأقل حكما قائما على معرفة ووعي بحقيقة كل واحد منهما وبطبيعة عمله. إنّنا حينما نأتي إلى الطبيب عادة، لا نحاسبه على النتيجة التي انتهى إليها في تشخيصه للمرض، ولا على النتيجة التي انتهينا إليها نحن في تناول الدواء، لأنه يكتب وصفته، استنادا إلى فحص سار فيه وفق منهج محدد المسالك في المعاينة والمراقبة..وتتوقف قيمة الوصفة على هذا المنهج الذي اكتسبه من خلال الدراسة والخبرة معا. فهو مسؤول عن هذه المسالك، وعن جدارتها في الكشف عن المرض، والتعرف على آثاره في البدن، ولكنه ليس مسؤولا عما سيحقِّقه الدواء في البدن، لأن هذا الأمر متروك لطبيعة استجابة الجسد، لتأثير الأدوية والعقاقير في الدم، والخلايا، والأعصاب، وغيرها..والخطأ الذي يرتكبه الطبيب متوقف على المسالك وحدها، لأنها هي التي ستُملي طبيعة الأدوية والجرعات، ومن ثم كانت المسالك هي محط الحكم ومبعثه.
أما الاقتصادي الذي نوكل إليه رفع الكساد في البلاد، وإصلاح حال العباد، فلا نسأله عن المسالك، وإنما ننظر في النتائج، فإذا رأينا ما كنا ننتظره من تحول في أرزاق الناس، وتبدل في معاشهم رفاها واتساعا، فإننا نرضى بما أتى، ونحكم له بالإجادة والنجاح، دون أن نهتم بأمر المسالك التي سلكها، والخطوات التي قطعها، لأننا نعاين ما كنا نأمله في سيره ذاك من نجاح وفلاح. بيد أن أمر السياسي والناقد فمختلف عن الطبيب والاقتصادي..لأنه لا يمكن أن نحكم على النتائج التي توصلا إليها إلا من خلال المسالك أولا..فطبيعة النتائج التي بين أيدينا لا نستطيع معرفة قيمتها العملية والجمالية، إلا إذا عرفنا قيمة المسالك التي أفضت إليها..فالجمال فيهما أن تكون النتائج وفق المقدمات. فإن كانت المقدمات فاسدة كانت النتائج فاسدة حتى وإن ظهرت إلى العيان أنها جميلة براقة، وهذا أمر يمكننا فهمه أولا على مستوى السياسي، حين يعرض علينا أمرا باعتباره نتيجة، ويزينه لنا في عرضه وتقديمه حتى تغيب ملامح العورات فيه..غير أننا حينما نعرف المسالك التي أدت إليه، تنكشف سوءاته، وتبدو بشاعته، ويظهر ضرره في الحاضر والآجل..هذا الشأن هو كذلك عند الناقد حينما يصدر حكما، فالكاشف لحقيقة الحكم أولا وأخيرا هي طبيعة المسالك التي اتبعها الناقد حتى انتهت به إلى هذا الحكم.