مراجعـــــات..

الإنسان.. نص يحتاج إلى قراءة وإلى تأويل.. ولكن كيف؟

بقلم أ.د. حبيب مونسي

حينما فتح علم النفس الكلاسيكي مع فرويد مفهوم اللاوعي في العلوم الإنسانية، لم يقدم مادة تسعف الإنسان في معرفة نفسه، والوصول إلى حقيقتها، وإنما فتح على نفسه بابا من أبواب الجهل الأكثر غموضا وضبابية. وصار هذا البعد الذي أحس به أخيرا في ذاته مثل البئر السحيقة التي تبتلع كل يقين قد يتسرب إليه نور المعرفة. صار ذلك مخيفا مرعبا، يبعث القلق في قلب الإنسان كلما أطل على هذه الفوهة السوداء التي تتجاوب في ظلماته زلال الحيرة والخوف والفقد. وراحت العلوم الإنسانية بكل أدواتها تحاول أن تدخل هذه المغارة المظلمة حاملة في أيديها قناديلها التي لا تصنع إلا دوائر ضوء سريعا ما تتراجع مساحتها فلا تضيئا إلا وجوه أصحابها لتنقل إلي بعضهم بعضا سيمات الخوف والقلق والضياع.. سارع الفلاسفة من ناحيتهم، وهرول الشعراء من ناحيتهم، وأسرع الكتاب، وتابعهم لفيف من المغامرين في كل فن ليقولوا إنهم إزاء «نص» تحتشد فيه الرموز، وتتكدس في أطرافه المعارف البالية، وتتكوَّم الخرافات المهترئة، ولكنها لا تصنع أبدا يقينا يمكن أن يتبلَّغ به الباحثون عن شيء يوضع تحت الأضراس.
الكل يقول إنهم أمام شفرة.. وأن هذه الشفرة تتعالى على اللغة، وأنها لن تجد حلها في الفلسفة وحدها، ولا في علم النفس وحده، ولا في الدين وحده، ولا في الاجتماعيات وحدها.. يجب أن يُبحث عنه في كلها دفعة واحدة.. الكل يعلم أن هذا الأمر لن يتم أبدا، وأنهم لن يتفقوا على ساعة واحدة ليبدأوا البحث في حركة واحدة.. فكيف لهذه المعارف التي تزعم أنها علوم تزيد الطين بلَّة، وأنها تضفي على العتمة عتمات أخرى أكلح وجها وأشد سوادا، وأنها لا توقد نورا إلا لتعقبه ظلمات بعضها فوق بعض.؟ حتى قال متفلسفتهم أخيرا: أنه «رسالة لا يملك أحد سرها» فأوصدوا الباب نهائيا أمام الإنسان الباحث عن نفسه، المطل على بئر أغوارها في ذاته. فحققوا فيه بذلك، قول الله تعالى: ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )(6).  إنه الإنسان «الكادح» لا بمعنى «العامل» كما عرفوه من قبل في علم الاجتماع الاشتراكي، وإنما «الكادح» وراء سره وحقيقته. والذي لن يعرفها حق المعرفة إلا من خلال ملاقاة ربه في الآخرة.. لأنه رفض أن يستمع إليه في الدنيا، وأصم أذنيه وأوصد قلبه وعقله. فكان كما وصف تعالى: (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ) .




 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024
العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024