مراجعات

هل الأدب والفن أنفلونزا التشاؤم؟

بقلم: أ.د. حبيب مونسي.

(أتجول في كل شارع قذر حيث يتدفق التايمز القذر وأرى في كل وجه أقابله علامات الضعف علامات الهلع)
حينما كتب «وليام بليك» هذا المقطع لم يكن «واقعيا» بمعنى الواقعية التي نعرفها في النقد الأدبي. وإنما كان مصابا بأنفلونزا التشاؤم.. هكذا أسميها اليوم لأنها عدوى بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر، واستمرت في الشعراء والكتاب دهرا ثم انتقلت منهم إلى العامة من الناس حتى أضحى التشاؤم دينا يدين به كل من يفتح فمه للتعبير عن رأي أو موقف أو فكرة. وكأن التفاؤل الذي حاولت الديانات، والفلسفات، والصوفيات التبشير به لم يصمد أمام هذه العدوى التي اجتاحت البشرية وحولتها إلى وجوه ربداء منقبضة، وغلفتها برداء من البرودة، فحرمتها دفء الجوار، والاكتشاف، والدهشة، ومسحت من شفتيها ابتسامات الفأل، وأبطلت فيها تقاسيم الفرحة. فلا شيء فيما يكتبه الناس اليوم حرفا واحدا تشرق من حروفه أشعة شمس البهجة، وحب الحياة.. نعم سيعترض علي معترض قائلا: إنّ الكل يحب الحياة! وهذا ليس صحيح البتَّة.. بل الكل يحب البقاء فقط! وهناك فرق كبير بين حب الحياة، الذي تسري فيه تباشير كل صباح بما يملأ اليوم فرحة وسرورا، وبين حب البقاء الذي تدبُّ فيه حاسة الترقب، والحيطة، والحذر من المُباغِت غير المنتظر!
يكفيك اليوم أن تفتح ديوان شعر لأحدهم أو إحداهن.. لا تقرأ اسمه حتى لا تحجب عنك معرفتك السابقة به مرادَك من البحث. لأنك تعرفه أو تعرف خبره.. اكتفي بقراءة العنوان.. سيكون العنوان هاديك إلى جو النصوص وسياقاتها التي كتبت فيها ومن أجلها.. ساعتها ستدرك مقدار الفداحة وعظم الخطب.. ستدرك أننا ننقل العدوى من خلال هذه النصوص. فنبرر للنفس مرضها، ونجبرها على أن تسدَّ منافذ حسها، وتتلفع بأغلظ وشاح لتتدفأ به..
كان الحزن سمة من سيمات المميزة للأدب الرومنسي، فغلَّف لغتَه بغلالة رقيقة من الحزن، عرفت كيف تتجانس مع ألوان الطبيعة وفصولها، فلم تُشعر الإنسان بضياع ولا دوار، ولم تحسِّسه بفقدٍ لأنه وجد الطبيعة من حوله تدور في مدارات ألفها، وعرف هواءها ودفأها، بردها وقرَّها، فطابت نفسه لهذا الدوران الذي رأى في أثره مرة أخرى كذلك دوران في الكون من حوله.. فتصور أنّه بذلك يوجد في وسط العالم وسرّته، وأنّه مركزه. فعلا شأنه في نفسه، وارتفع تقديره لها.. لكن أدب اليوم في تشاؤمه، أدب ضيق حرج. أدب لا يخبرك بشيء جديد تتحسس وجوده، وإنّما يزكم أنفك بتعفّن أنت جالس عليه، أو تطأه بحذائك فتتأفّف منه، ولا تتورّع من مسحه على سجاد الآخرين.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024