الكاتب ميلود ولد الصديق لـ«الشعب»:

الأعمال الأدبية لسان حال الأمم في الترويج لثقافاتها

حاورته: إيمان كافي

 

لطالما شغل وصف المكان حيزا في أعمال الأدباء والكتاب والمبدعين بشكل عام كظاهرة استدعت الاهتمام بها، فالعديد من الروايات والأعمال الشعرية سواء العربية أو الغربية انطلقت من أحداث احتضنتها مدن وقرى بزواياها وشوارعها وعبق تاريخها، لذلك شكل ولازال يشكل المكان في شكله أو معماره التاريخي والتراث الثقافي للأمم التي عاشت فيه موضوعات لعدد من الروايات.

بالإضافة إلى كيفية محاكاة هذه الأعمال الإبداعية للوسط الذي عايشه المبدع واحتل جزءا مهما في ذاكرته التي لطالما مثلت محور جذب للجمهور والنقاد على حد سواء، وللتعمق في أهمية المكان كعنصر جذب للقارئ ومتعة للراوي، تطرقنا للحديث مع الكاتب ميلود ولد الصديق وهو أحد هؤلاء الكتاب والذي دخل تجربته الروائية الأولى من خلال رواية «ابن القرية» أو «ميس نتموحت» التي مثلت تجربة جريئة في سرد تفاصيل فضاء الواحات الصحراوية، كما أشار لذلك الدكتور عبد الكريم بن خالد.

«الشعب»: يحظى المكان بأهمية خاصة في سرد القصص والروايات، فيما تتبين أهميته برأيك؟

الكاتب ميلود ولد الصديق: الرواية في بعدها الأدبي نص متين وفضاء مفتوح يلجأ إليه الكاتب لتسجيل شحناته العاطفية ومسالك لم يقدر على توصيلها بألوان أدبية أخرى، فهي الملاذ الآمن لتفريغ المشاعر والآلام والآمال، لا تحوزه قافية ولا يحده روي ولا تلزمه قواعد مضبوطة، يسرح بخياله وفكره ليعمق ويضيف للأحداث توجيهاته وزوايا نظرته لما يكتب والبهارات والخلطات التي يراها مناسبة لإخراج ما يلائم الهدف الذي يحدده سلفا لنصه،...والاهتمام بالمكان في نص الرواية له عدة أبعاد ودلالات، فقد يكون محل المولد فيكتسي رمزية خاصة وتبجيلا سامقا من طرف القاص فيعمد لذكر جميع تفاصيله، الأزقة والشوارع والبيوت والمرتادين والأعيان والأشياء، بل حتى أصناف المأكولات وغير ذلك ويكون هذا سيما ضمن الروايات التي تحمل طابع السير الذاتية تماما مثل رواية ابن الفقير للروائي الجزائري مولود فرعون الذي أوغل في ذكر تفاصيل المكان وجزئياته وتعدى ذلك لسرد تشنجات العلاقات الاجتماعية والروابط التي كانت تجمع بين أفراد القرية الجبلية الواقعة في منطقة تيزي وزو.
الأمر ذاته بالنسبة للروائي المعاصر الصديق الحاج أحمد، ففي بيئة أخرى صحراوية استطاع بقلمه أن يأخذنا في رحلة رائعة ضمن أرجاء مملكته الزيوان وهي رواية مليئة بالمصطلحات المحلية وبالأمكنة المشروحة تجد نفسك فيها قارئا ومكتشفا في ذات الوقت، كذلك بالنسبة لـ»صحراء الظمأ» للأخضر بن السائح أستاذ الأدب في جامعة الأغواط. وقد يكون المكان مقصودا بذاته لمناسبة أليمة أو حدث فريد، نجد هذا في رواية «رقان حبيبتي» للجندي الفرنسي «فيكتور مالو سيلفا» الذي عايش أحداث التفجيرات النووية في رقان فقص تفاصيلها وتفاصيل المكان وبشاعة الأحداث وتأثيراتها الجانبية على الإنسان والحجر والنبات، أو أن يكون المكان عرضيا أحيانا، كما هم في رواية رشيد بوجدرة «تيميمون» التي تروي تفاصيل شخص يلجأ للصحراء فارا من جحيم الإرهاب عبر حافلة يقلها فيستأنس في ذكر بعض عادات وتقاليد المنطقة مثل الأهليل.. وقبل ذلك «الخميائي» للروائي الكبير «باولو كويليو» حيث يسحرنا بتلابيت وصفه السامق وأسلوبه السهل الممتنع عبر بطل الرواية «الراعي» إلى بيئات متعددة مختلفة فيقدم لنا مفاتيح أبواب ثمينة تفرض على كل قارئ أن يلج إليها في وقت لاحق، طنجة، إسبانيا، الفيوم ...إلى آخره.

 في روايتك «ابن القرية» نال المكان جزءا مهما في ربط الأحداث ووصف تفاصيلها، لماذا اخترت الخروج بها كأول عمل روائي لك؟

ابن القرية تجربتي الأولى في مجال النص الأدبي النثري وقد وجدت متعة نرجسية وأنا أخط تفاصيلها وألقى نفسي مخبوءا بعناوين لا حصر لها تلد أثناء الكتابة، مما سيلهمني فرصا أخرى لكتابة نصوص مشابهة وهذا وعد قد لا أحيد عن الوفاء به.  لا أخفيك سرا إن « ميس نتموحت» هو بمثابة عربون وفاء للمكان الذي نشأت فيه وترعرعت فيه...رغم أن الأمكنة تماما مثل الأبوين فرغم إحسانك لهما لن يبلغ ذلك معشار أنين، مخاض ميلادك أو جسامة لحظات عمرك الأولى. قصر المنجور أو المكان المسمى المنجور هو رمز عتيق في سماء الفضاء الصحراوي ....قد تتقاطع تفاصيله مع القرى الأخرى المجاورة من حيث العادات والتقاليد والجغرافية والمستوى المعيشي وحجم المعاناة وغير ذلك ..لهذا سيجد أي ساكن في هذه البيئة ذاته وكيانه وسيستشعر طفولته الأولى ومسار حياته حينما يتتبع أطوار نشأة بطل الرواية الفتى عثمان.

كيف يمكن أن يلعب حضور المكان في الأعمال الأدبية دورا للترويج السياحي لشوارع ومدن الجزائر وطبيعتها كأسلوب جذب قد يجر القارئ إلى الرغبة في زيارتها؟

الأعمال الأدبية والسينمائية، مثلت عبر عقود من الزمن ولا زالت الدبلوماسية الناعمة ولسان حال الأمم في الترويج لثقافاتها وعاداتها، بل أحيانا للمذهب السياسي السائد ... لذلك احتلت على سبيل المثال لا الحصر أعمال بعض الأدباء والروائيين المشارقة كالمنفلوطي ومي زيادة وجبران خليل جبران مساحات واسعة من تفكيرنا، ومن خلال أعمالهم التي تحولت إلى أفلام تعرفنا على تفصيل البيئة القروية المصرية واللبنانية والعراقية. وضمن الفضاء الجزائري تولد أقلام عملاقة تؤرخ وتعري الغبار على كنوز بلداتنا وقرانا ومدننا الجميلة الفاقدة لأي بريق إشهاري أو كتابات تخرجها لآفاق العالمية الخصبة، ومن ذلك الروائي والكاتب واسيني الأعرج من خلال روايات» الأمير 1» و»الأمير 2» والروائية الجزائرية أحلام مستغانمي التي استطاعت بأسلوبها ورومانسيتها الجريئة أن تسرد تفاصيل بعض عادات الشرق الجزائري وجزء من الحقب المتراكمة، فرحا وحزنا التي عشناها خلال العشرين سنة الماضية يظهر هذا في روياتها «الأسود يليق بك»، «قلوبنا معنا وقنابلهم علينا» وروايتها «فوضى الحواس» حيث تتشعب في ذكر تفاصيل أزمة التسعينيات.
 
يرتبط وصف المكان أحيانا بالذاكرة، فهل تعتقد أن دور وصف المكان لاسترجاع ذكريات الماضي يشير إلى أن الرواية أصبحت تمتد في أدوارها إلى حفظ وتسجيل تراث المكان أيضا بعيون الراوي؟

في اعتقادي أن هدفي الأساسي من «ابن القرية» هو المساهمة في التأريخ لهذا المكان العتيق الجميل الرائع، بتخليد الأمكنة والعادات والتقاليد وجعلها راسخة في مخيلة الناشئة وقد سجلت عبارات في مقدمة الكتاب توحي بذلك، تبحث عن أروع غروب للشمس حيث تتلامس آخر طفحات السماء بأول حبات الرمل، تنبش أطراف الأرض لتسأل عن أقدم وأبدع الطرق في شق قنوات الماء -»الفقارات»- تروي البساتين في صحاري القحط، تحدثك نفسك عن المناطق الرطبة ذات الطيور النادرة، تريد أن ترقص أذناك طربا لأهازيج موسيقى التراث الجماعي «أهليل حيث تمتزج فيه صنعة الأيادي وأفواه الرجال بأسمى معاني قصائد التاريخ وحكايات، حينها فقط لا يمكنك أن تجد هذا سوى في رحاب المدينة الهادئة الثائرة على ضجيج الحياة، مدينة الكثبان: الواحة الحمراء «الصفحة رقم 04»، لذا أعتقد أن أسلوب القص سيكون أكثر تشويقا وأسرع لذهن القارئ حتى يتعرف على تفاصيل البيئة المراد وصفها.... ففي ابن القرية أسرد بعض الأمكنة القديمة أغام الشريف مثلا، وأغان كان تنشدها الأجيال تلوى الأجيال لكن دون معرفة معانيها ومن ذلك «تقشبيل يلة تيولولو ، ما كتلوني ما حياوني، غير الكأس اللي عطاوني، الحرمي ما يموتشي جات أخباروا في الكوتشي»، إضافة إلى إبراز دور الكتًاب والمدارس الدينية (اقربيش) في حفظ النسيج المجتمعي وغير ذلك. هي تجربة لها مالها وعليها ما عليها، لكن صراحة وجدت نفسي في قفص من ذهب قد لا أغادره حتى أصف جميع زواياه وأركانه وجزء، مما يجول في خاطري عبر سنوات.. فقد يصلح بالأدب ما لا يصلح بالسياسة وأخواتها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024