«ابن القرية ميس نتموحت « رواية تقاطع فيها المشاهد الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والسيكولوجية في نصوص القاص ابن الواحة الحمراء ولد الصديق ميلود
فرض عالم الصحراء نفسه وبقوة كبيرة على النص الروائي الجزائري المعاصر بحكم جاذبيته وروائع طقوسه وعاداته وتقاليده الساحرة، وبحثا عن فرص جديدة للتجريب، وممارسة مغامرة الكتابة بنوع من الممارسة العشقية مستعينا بقاموس صوفي ثري بمصطلحاته الموغلة في الوله والوجد والفناء وقد استطاعت بعض النصوص الروائية الجزائرية أن تكشف لنا عن عوالم رحبة للعالم الصحراوي مثل : «مملكة الزيوان» لـ: حاج أحمد الصديق، «صحراء الظمأ» لـ: الأخضر بن السائح ورواية «تيميمون» للروائي رشيد بوجدرة، وهذا يتضح جليا أيضا في نصوص هذه الرواية «ميس نتوحت ابن القرية» للروائي ولد الصديق ميلود الصادرة عن دار المثقف بالجزائر العاصمة 2018 ، حيث نجد حضورا قويا في وصف حياة المكان والانسان في الواحة الحمراء الصحراوية في كل أبعاده الواقعية والمتخيلة وارتباطها الوثيق بالجانب الزمني والتاريخي في نصه وشخوصه فهو يحتل أهم موقع في هذا العمل الروائي في شكل مجموعة من الأشياء المتجانسة من الظواهر أو الحالات أو الأشكال المتغيّرة...التي تقوم بينها علاقات شبيهة بالعلاقات المكانية الاجتماعية، بحسب الباحث السيميائي «لوتمان» وقد استطاع الراوي ان يستقرأ الحنين في هذا الفضاء الجغرافي من خلال «نوستالجيا» جميلة سافر بنا القاص ولد الصديق ميلود الى ذلك الزمن الجميل في القرية «القصر» في طقوسه وعاداته ومختلف دروب الحياة في ذلك الحيز المكاني والطبيعي بواحاته وبساتينه وفقارته ونخليه الباسقات اللائي يتماوجن طربا على تراث الاهليل القوراري. كما يورده القاص في:
موسيقى الأهليل تمتزج فيه صنعة الايادي وأفواه الرجال بأسمى معاني قصائد التاريخ وحكاياته، حينها فقط لا يمكنك أن تجد هذا سوى في رحاب المدينة الهادئة الثائرة على ضجيج الحياة، مدينة الكثبان «الواحة الحمراء».
حيث يتفنن القاص في رسم صورة جمالية لواحة تيميمون والتي هي: عبارة عن قصر بربري عتيق مبنية أصواره بالصلصال الأحمر، فسميت بالواحة الحمراء.
مِن الكُتابِ..... كان البدء
طقوس موسم الحرث في الواحة حاضر ضمن هذا النص في سرد جميل لموسم الحرث في الواحة الحمراء « توبر» ، في خريف من كل سنة والذي يصاحبه زخات المطر والنسمات المنعشة والبرودة الجافة بعد صيف لا سيادة فيه إلا لشمس متربعة فوق سماء الصحراء والتي تنبذ الرحيل على جاسمة سلطتها على الواحة العتيقة دون شفة ولا رحمة طوال أطراف كل نهار من أيام «غشت» حتى يأتي موسم «التوبر» أو «التاكهزا» بفرحة تمتزج بسرور الفلاح بموسم الفلاحة والخوف من الامطار التي تسبب النكبة وتصدع منزله المبني بالطوب والطين الاحمر المسقف بجريد وسعف النخيل الذي لا يقوى على سطوة المطر والريح عليه.
في هذه الرواية التي تصور مدى تشبث الانسان الواحي والمتمثل في شخصية الحاج محمد الصالح ومدى ارتباطه بالأرض مفضلا الاستمرار في اعمار القصر وحرث زرعه المحفوظ في مطمورة مركونة في بستانه بـ «اقران ان تنيي « رافضا مختلف صيغ السكنات المقدمة من طرف البلدية لصالح سكان القصر، وحث ابنائه وخاصة ابنه «عثمان» على الاستخلاف في الارض وعمارة حي المنجور العريق وحثه ايضا على التردد على «اقريش» (الكُتابِ) لتفقه في الدين وحفظ ما تيسر من القرآن وتكريمه بمناسبة «الحافيض» وذلك بتزيين لوحته الخشبية التي كان يكتب عليه القرآن بأشكال زخرفية تسمى «العورفة» وهي زخرفة اللوحة الخشبية فنيا بمنمنمات زخرفية بماء الزعفران والورود يحضرها معه «عثمان» دون أن يعيقه عن ممارسة هوايته في لعب «الشمون والسيق ولعبة لامارين»، ولم يغفل ميلود ولد الصديق في سرد الطقوس الدينية والاحتفالات الشعبية الممتثلة في الوعدة ورقصات البارود من قبل الفرق المختلفة التي ستجوب جميع جنبات الشارع الرئيسي لحي المنجور بلباسهم وعباءاتهم البيضاء مرفقين بجوادين رائعين جميلين الى ان يصلوا الى الربوة «جبل السبوع « حيث الروائي استطاع ان يجعلنا نلج الى العالم الديني والروحي للقصر بنوع من التشويق واثارة حفيظة القارء للتتبع فصول هذه الرواية بكل شغف .
الثانوية.. وفرحة النجاح
استطاع الكاتب ان يسرد تفاصيل المسار الدراسي لشاب في المجتمع القواري في شخصية «عثمان» و «أحمد» شبيه عثمان في كل شيء وكأن الاقدار جمعتهم ليكونا هكذا ، يراجعان معا يتحادثان حول وضعية المجلة الحائطية في الثانوية ومن سيكتب عمودها الاسبوعي في قالب حواري أقل ما يقال عنه انه يجعل القارئ، يعيش تفاصيل هذه الصداقة في مخيال تمثيلي أقرب الى لغة الواقع حيث يصف الراوي مسار رحلة هذه المحبة الصادقة في نصّه:
رحلة ستشكل بداية صداقة أخرى بعد صداقة الطفولة ببراءتها، صداقة أبدية لم يعرف العالم مثيلا لها
لينتهي هذا الفصل مكللا بنجاح عثمان في البكالوريا بعد أن استرقت الام «فانة « السمع بالرغم من جهلها وأميتها وتعرفت على اسم ابنها من بين اسماء الناجحين الذين تذيعهم الاذاعة المحلية بداية كل صيف لتلقي الام ما في يدها من قمح، قفزت فوق مائدة الشاي مسرعة نحو ابنها الذي انزوى الى ركن شديد الظلمة لتبشره بالنجاح ليهتز فرحا كل جنبات المنزل المتواضع تواضع صاحبه الحاج محمد الصالح لتبدأ رحلة سفر عثمان الى الجامعة .
يوم أًسود.. يتم عثمان
انتهج الروائي منهج الترجيديا في هذه الفصول من الرواية واسهب فيه وجعلها الجانب المظلم في هذا النص بعد وصف رحيل «الحاج محمد الصالح» ذو الثماني والسبعون سنة لم تخر عزيمته يوما قط، كان مقداما في عمل الخير والمساهمة في نزع فتيل الخصومات و الاصلاح بين الازواج والاشقاء وكان ايقونة القرية، مثل جدل وحركية لا متناهية فكيف بعد اليوم ان تمسي وتصبح بدونه «دكاكين مولاي الطيب» أما في الفصل الاخير فوصف القاص مشهدا تارجيديا آخر تمثل في وفاة والدة عثمان حيث يرن هاتفه وهو في الاقامة الجامعية فيكون المتصل «حليمة «زوجة العم تخبره بوفاة قرة العين الوالدة التي التقاها قبل أشهر في القرية وقد حدثتها عن قرب تخرجه وأمنياته وآماله المستقبلية، مما ادخله في حلقة بكاء هستيرية بعد ان دخل عالم اليتم وهو شاب:
هكذا الحياة مثل الشمس تماما، لها وقت اشراق ولها وقت غروب أيضا
يختم الروائي ولد الصديق هذا الفصل الحزين ليفتح فصلا آخرا وعمرا آخر لهذا العمل الروائي الجميل
في الجامعة يولد حب لا تنتهي مدة صلاحيته بانتهاء المسار الاكاديمي
في هذا الفصل يسافر بنا الكاتب الى رحلة «عثمان» الجامعية وما تحمله من ثقل اجتماعي و نفسي لابن الواحة الذي ألف ماء وهواء وطين وتراب القصر والواحة لتحدث هذه الرحلة نوعا من القطيعة بينه وبين دروب ألفها في الواحة الحمراء كسفره الطويل في الحافلة نحو الجامعة التي تبعد 1200 كلم عن القرية على ضفاف البحر المتوسط ، اختيار التخصص الاكاديمي الذي يتوافق مع ميوله العلمية والمهنية وانخراطه في المنظمات الطلابية والدفاع عن حقوق الطلبة ، كلها تجارب جديدة ساهمت في بناء شخصية «عثمان»....احداث تترك القارء يعيش تطور حياة «عثمان» الطالب الجامعي وتفتحه على عالم المدينة والتمدن في قالب سوسيولوجي حول تمدن الانسان القروي.
من أًروقة النادي الجامعي يولد حب أزلي..
يصوّر هذا الجانب العلاقة الغرامية لا تنتهي صلاحيتها بانتهاء المسار الجامعي لـ «عثمان» ولـ «حورية» فصل يجعلنا نعيش الجانب الرومانسي العفيف في هذه الرواية والذي بدأت تفاصيل احداثه في اروقة جمعية الابراهيمي ذلك الفضاء الثقافي البديل الذي كان يبحث عنه ويتوق اليه وهو في الجامعة والتي سوف تشعره انها حاضنته الحقيقية وبيته الثاني ومتنفسه نحو الاستمرار في عالم الابداع والكتابة الشعرية والادبية والقصصية الى ان يلتقي بـ «حورية» مسؤولة التشريفات في الجمعية ذات الخمار الوردي الفاتح وحجابها المتميز المتناسق مع وجهها الوضاء الجميل البهي فأذعنت روح «عثمان» الشاب القروي الجنوبي لقوة وجاذبية وثقة وجمال «حورية» البدوية القادمة من التل الشمالي الاخضر ، فكتب لها أول باقة رسائل الوصال منسلت الكلمات مضطربة المعاني و الاسلوب اضطراب شخصية العاشق «عثمان» فأبرقت «حورية» برد جميل رصيد رصانة بنت البادية تقول :
«اسمحي لي بأن لا التزم قافية الحواجز أو جدار الفواصل في كلامي بل سوف أكون بسيطا فطريا.. إنسانا يتذوق معنى الانسانية داريا لطبيعة الظروف والمرحلة»
القاص يصف لنا حب عفيف عفة الواحة الحمراء جمعتهم روح البساطة والتدين والالتزام ، الرغبة في العفة والحلم علاقة عنوانها: «التأسيس لبيت مسلم مستقر له رسالة وهدف سامي في هذه الحياة» ويختم القاص نصه الروائي بقوله:
«الحياة رواية جميلة ...عليك قراءتها حتى النهاية، لا تتوقف أبدا عند سطر حزين ولا تأخذها على أنها مأساة فقد تكون النهاية أجمل، قد تقصر وقد تطول، لكن كل شيء مرهون بالطريقة التي نحياها بها....ولا قيمة لها إلا إذا وجدنا فيها شيئا نناضل من أجله إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة حينما نعيش للأخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالأخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية فلا يجب أن نحسبها بعدد السنين ولكن بعدد المشاعر … لأنها ليست شيئا آخر غير شعورنا بها..»