لقد صار من بديهيات الأمور القول إن للثقافة موقعها في كل أشكال النشاط البشري على مرّ التاريخ.. ولم يحد النضال الوطني الجزائري عن هذه القاعدة، فكانت مسائل الثقافة، وعلى رأسها الهوية واللغة والتراث والمعتقدات والتعليم، حاضرة، وإن بشكل متفاوت، في نصوص الثورة التحريرية. ولعل من أبرز من درس هذا الجانب شيخ المؤرخين الجزائريين، الدكتور أبو القاسم سعد الله، الذي خصص في سلسلته الشهيرة «تاريخ الجزائر الثقافي» قسطا هاما لهذه المرحلة الحاسمة.
تطرق الدكتور أبو القاسم سعد الله، في الجزء العاشر من مؤلفه الشهير «تاريخ الجزائر الثقافي»، إلى عديد النقاط ذات العلاقة بالثقافة في فترة الثورة وما قبلها، حيث تحدث عن السينما والمسرح والرسم والمكتبات والأدباء والتعليم والإعلام.. وعلى سبيل المثال، نجد خصص الفصل السادس إلى المسرح والموسيقى والغناء، حيث تحدث عن المسرح عشية الثورة، ثم أثناءها (باشتارزي)، وعن نشاط الفرقة الوطنية الفنية، وعن الموسيقى والغناء مستشهدا بآراء في الموسيقى كرأي عمر راسم، وعن الأخوين فخارجي، وغيرهما من الموسيقيين والمغنين.
في نفس الجزء، نجد سعد الله قد خصص الفصل الثاني للثقافة في نصوص الثورة.. وفي استهلال هذا الفصل، يقول سعد الله إن قضايا الهوية قد عالجتها وثائق الحركة الوطنية بإسهاب في مختلف مراحلها، وقد تحدث الجزائريون، من عهد الأمير عبد القادر إلى عهد الأحزاب السياسية، عن تراثهم ومكوناتهم الفكرية واللغوية والدينية كعناصر وحدة منصهرة في التاريخ لا انفصام لها. واستشهد سعد الله (في الصفحة 75) بالمؤتمر الثاني لحزب الشعب الذي انعقد عشية الثورة (أي سنة 1953) والذي نص على أن «ثقافة الجزائر ثقافة وطنية مرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية وأن التربية الوطنية في الجمهورية الجزائرية ستكون مرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية».
الصومام.. والثقافة
يتطرق أبو القاسم سعد الله إلى موضوع الثقافة في مؤتمر الصومام، ويطرح في الصفحة 84 سؤال: كيف عالج مؤتمر الصومام المسألة الثقافية بعد أن أصبحت صفوف الثورة متراصة بهذه العينات من الكهول والشباب؟ (يقصد ملتحقين بالثورة من مختلف الأحزاب والتيارات والإيديولوجيات) وهل اختلفت نظرته ومرجعيته عن نظرة ومرجعية بيان أول نوفمبر؟».
ويجيب سعد الله على هذا السؤال قائلا إن المؤتمر عالج موضوعات ثقافية هامة، حيث «تحدث عن مقومات الأمة من تاريخ ولغة واحدة ودين وعادات، وتحدث عن انتماء الشعب الجزائري الحضاري، وعن فيدرالية المغرب العربي (وليس شمال إفريقيا خلافا لبيان أول نوفمبر)»، فيما لا تشير وثائق المؤتمر المعلنة «إلى أية إيديولوجية خاصة بالثورة كما لا تشير إلى الانتماء العربي الإسلامي أو الارتباط بالتراث أو مرجعية التاريخ الجزائري».
ولاحظ سعد الله تركيزا على «فيدرالية إفريقيا الشمالية»، التي تؤلف في نظر المؤتمرين كلا واحدا «نظرا للجغرافية والتاريخ واللغة والحضارة والمصير»، وهذه الفيدرالية ستتولى «إقامة تعليم وتبادل في الإطارات الفنية وتحقيق التبادل الثقافي». من جهة أخرى، تفاعل المؤتمر مع الأحداث، وبالأخص مع الملتحقين الجدد بالثورة، وكان إضراب الطلبة عن الدراسة غير بعيد عن موعد انعقاد المؤتمر، ورحب هذا الأخير «بالمثقفين الشباب واعتبر انضمامهم إلى الثورة وإلى الوطنية الجزائرية فشلا لسياسة (الفرْنسة) التي حاولت خنق الوعي الوطني لدى الشباب المثقف».. كما دعا المؤتمر إلى تكوين لجان عمل تضم المثقفين الوطنيين وتأطيرهم، وعلى جبهة التحرير أن توضح مجالات العمل لهؤلاء الطلبة والطالبات، وهي المجالات السياسية والإدارية والثقافية والصحية والاقتصادية.
من الناحية الهوياتية «ألحّ محضر المؤتمر على أن الثورة الجزائرية ليست حربا أهلية بين الأقلية الأوروبية والأغلبية المسلمة ولا حربا دينية أو جهادا بين الإسلام والمسيحية»، وذلك لمواجهة الدعاية الاستعمارية آنذاك. وبخصوص الجنسية والذاتية اللغوية فقد ألحّ المؤتمر على أن الجزائريين في الماضي لم يقبلوا أبدا بالفرنسة ورضوا بالعيش في وطنهم بدرجة أقل حرية من الأجانب، بينما عمد المستعمر إلى «خنق اللغة الوطنية التي تتكلمها الأغلبية الساحقة من المواطنين، أي اللغة العربية».
كما تحدثت الوثيقة عن «اختفاء التعليم العالي باللغة العربية منذ بداية الغزو الفرنسي الذي شتت أساتذة وتلاميذ اللغة العربية وأوصد أبواب الجامعات في وجوههم وهدم المكتبات واغتصب التبرعات (الأوقاف) الدينية، كما دنس الدين الإسلامي وأخضع رجاله فأصبحت الإدارة الاستعمارية هي التي تختارهم وهي التي تمنحهم أجورهم» (ص 87).
لقد حاولنا في هذه السانحة أن نتقيد قدر الإمكان بالظرف، الذي نحتفي فيه بذكرى 20 أوت المزدوجة، ونكتفي بالتعريج على بعض ما جاء به سعد الله عن حضور الثقافة في نصوص الثورة التحريرية، وبالأخص وثائق مؤتمر الصومام. ولكن ممّا تجدر الإشارة إليه، هو ما لاحظناه حين اطلاعنا على كتابات أبي القاسم سعد الله من جرأة كبيرة، وسعي إلى الموضوعية والتجرّد، والكمّ الهائل من الأسئلة التي يطرحها.