لا نراعي في دراساتنا المعطيات الواقعية
أكّد المهندس المعماري حبشي وليدأنّ تجانس العمران بمدننا يبقى هدفا صعب المنال، ويستحيل تحقيقه ميدانيا في ظلّ الظروف الحالية التي تحكم عالم العمران بالنظر إلى كون السبب المباشر الذي يقف وراء الظاهرة يكمن في التوسعات العشوائية للمدن بعيدا عن النظرة الاستشرافية الشاملة.
قال المهندس وليد حبشي بأنّ مدننا في شكلها الموروث كانت مقبولة إلى حد كبير في نمط تجانس عمرانها، غير أنّ التوسّعات التي أحدثت على مرّ عقود خلت من الزّمن رافقها شرخ كبير في تجانس العمران، لأنّها لا تتمّ عادة وفق معايير مضبوطة ولا تأخذ في الحسبان توفير المرفقات الضرورية من هياكل قاعدية وطرقات للمرور، كما أنّها تغفل تماما عن التقاليد المحلية والجوانب الجمالية للهياكل المنجزة، ولا تأخذ في الحسبان أيضا ما له علاقة بالجانب البيئي الذي يعتبر أمرا مهما بالنسبة للمدينة الحديثة، وضرب المهندس مثلا على ذلك مدينة تيبازة التي تحتل فيها العديد من الادارات موقعا جغرافيا لا يليق بها غير بعيد عن المناطق الأثرية، وهو الموقع الذي كان يفترض بأن يحوّل إلى وجهة سياحية بامتياز من خلال إنشاء فنادق وأسواق للصناعات التقليدية بمعية مرفقات أخرى تليق باحتياجات السواح، على أن يتم إدراج مقرات الادارات بأعالي المدينة تجنبا للضغط المضاعف المفروض على المدينة لاسيما خلال ساعات الذروة، كما أنّ مشروع 1700 سكن من نمط عدل الذي يرتقب الشروع في انجازه قريبا بالقرب من حديقة التسلية للمدينة يعتبر هو الآخر مضرا بالتجانس العمراني الى درجة كبيرة بالنظر الى مساهمته المباشرة في تغيير النظرة الى المدينة سواء تعلق الأمر من المدخل الشرقي أو حتى من البحر لأنّه كان يفترض بأن يعتمد تدرّج في ارتفاع البنايات انطلاقا من مستوى سطح البحر ووصولا إلى أعالي المدينة، الأمر الذي سيسمح بالحفاظ على الطابع الجمالي للعمران. ويكشف هذا الواقع عن غياب تام لنظرة استشرافية مستقبلية لقطاع التعمير، بحيث يتم اختيار الأرضيات لإنجاز مختلف المشاريع المقترحة بطريقة عشوائية وغير مدروسة لتبقى بذلك مجمل الاقتراحات المتعلقة بالتوسعات تصب في هذا المنحى، وتلحق بالتجانس العمراني ضررا لا يليق بالمحيط الحضري للمدن.
وعن الأسباب المباشرة لبروز ظاهرة انعدام التجانس العمراني بمدننا، أشار المهندس حبشي وليد إلى أنّ الامر يرجع كلّه الى إهمال العديد من المعطيات الهامة التي يفترض بأن تؤخذ في الحسبان خلال مرحلة إعداد الدراسات للمشاريع التنموية الكبرى تأتي في مقدمتها قضايا النمو الديموغرافي وطبيعة الموقع الجغرافي وتاريخ المنطقة وتقاليدها، إضافة إلى عدّة نقاط أخرى تعنى بالطابع الجمالي والنظرة الشمولية، كما ساهم عدم استقرار مراكز اتخاذ القرار في بروز هذه الظاهرة لأنّ الأمر هنا بحاجة إلى قدر كبير من التواصل والاستمرارية. وقال محدثنا بأنّ المدينة يجب التخطيط لها وإنجاز مرافقها وهياكلها وفق دراسة دقيقة ومعمقة بعيدا عن سياسة البريكولاج، وتخطي النظرة الجمالية والتقاليد، وذلك بتحديد أرضية قانونية صلبة تنظم هذا الميدان ويتم تطبيقها على أرض الواقع بصرامة كبيرة على غرار ما هو معمول به بباقي دول العالم التي تحترم نفسها.
وعن المدينة النموذج التي يمكن اعتبارها منتظمة في عمرانها وهياكلها، قال محدثنا بأنّ لمدن الجزائرية تبقى مع الأسف بعيدة عن التجانس العمراني، إلا أنّ ذلك يخضع لسلم درجات متفاوت، فمدينة سطيف مثلا ساعدها موقعها الجغرافي المسطح لأن تكون الأقرب إلى ما هو مطلوب من غيرها، كما لا تخل مدن أخرى من هذه الصفة ولكنّه في كل الحالات فإنّ نظرة استطلاعية من السماء يمكنها الكشف عن كم كبير من العيوب التي يحملها العمران في طياته، على عكس ما هو قائم بمدينة برشلونة الاسبانية مثلا، والتي تحوز على بناءات منتظمة وطرقات متوازية ومتقاطعة بشكل جذاب ومميّز بالنظر إلى كون الجهات المعنية بتوسيع المدينة لم تهمل مجمل المعايير التقنية المتعلقة بالتوسعة العمرانية منذ امد بعيد، كما لاحظ الجزائريون الزائرون لتونس اعتماد اللونين الأزرق والأبيض دون سواهما في طلاء مجمل المدن الساحلية ما أضفى عليها روعة وجمالا، ناهيك عن تجسيد نمط عمراني متميّز بها بالتوازي مع تطبيق قوانين صارمة لتنظيم هذا القطاع، ونحن بالجزائر بأمس الحاجة الى ذلك.
ومن التداعيات السلبية لعدم تجانس العمران بروز بؤر سوداء تعنى بالازدحام المروري بالعديد من المدن، كما أنّ مناطق محددة من مدننا تستقبل عددا محدودا من المواطنين والزوار في فترات محددة، وأعدادا مضاعفة خلال فترات أخرى دون أن تتمكن الهياكل والفضاءات المتوفرة من تلبية حاجيات هؤلاء، وهذا يرجع أساسا الى غياب النظرة الاستشرافية البعيدة المدى أثناء إعداد الدراسات المتعلقة بالعمران، بحيث أفرز هذا الواقع إنجاز مستشفيات بوسط المدن بشكل يعيق مسار بلوغها، وتحوّلت أجزاء من بعض المدن إلى وجهة جذّابة للزوار، فيما تبقى أجزاء أخرى تشبه الأطلال والمراقد لا غير.