سنة أخرى ترحل تاركة المجال والآمال لسنة جديدة، سنة عرفت فيها الثقافة وبالرغم من التطبيق الصارم لسياسة التقشف وترشيد النفقات، نوعا من التألق والتميز، صنعهما الالتفاتة الكبيرة لمسار المثقّفين ورجالات العلم والفن والأدب والموسيقى والسينما ممّن صنعوا تاريخ الجزائر الأدبي والثقافي والفني، من خلال إسداء رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة وسام الاستحقاق الوطني من درجة «عشير»، «أثير» و»عهيد» للعديد من الأسماء في حياتها أو بعد وفاتها، إذ كانت التفاتة عرفان وإجلال لتضحيات هؤلاء ولمواهبهم الفذّة ولعطائهم الكبير. آخر التكريمات لهذه السنة، تكريم الجزائر للموسيقار المصري الكبير الراحل أحمد فوزي، الذي لحّن النّشيد الوطني والذي أسدى لروحه رئيس الجمهورية وسام الاستحقاق الوطني من درجة «عهيد»، وهو بمثابة عرفان الشعب الجزائري وحكومته لصديق وفي لثورة نوفمبر المجيدة. وقد قدّمت التّكريمات في كل مرة بدار الأوبرا بوعلام بسايح بالعاصمة.
ولعل ثاني أهم حدث ثقافي ميّز سنة 2017 هو الموعد السنوي مع القراءة والابداع من خلال الطّبعة الـ 22 للصالون الدولي للكتاب، الذي احتضنه كالمعتاد قصر المعارض الصنوبر البحري بالعاصمة، بمشاركة 51 دولية، وكانت إفريقيا الجنوبية ضيفة شرف.
للإشارة، فإنّ التّظاهرة التي عرفت تقليصا في ميزانيتها بنسبة 40 بالمائة تهدف أساسا إلى تشجيع المقروئية وإعادة مصالحة المواطن مع الكتاب، إلى جانب تشجيع الإبداع والتأليف والنشر، وإعادة الاعتبار للمثقّف والثّقافة الجزائرية وإعلاء مكانتها بين الدول.
عرفت سنة 2017 أيضا إحياء الجزائر لمئوية ميلاد المفكّر، الكاتب والباحث في الانثروبولوجية الراحل مولود معمري (1917- 2017)، حيت برمجت العديد من الأنشطة الثّقافية والأدبية التي سلّطت الضوء على أعمال الأديب والمفكّر ومكانتها في الثقافة الجزائرية والعالمية، كان أهمّها البرنامج الثري الذي سطّره المجلس الأعلى للأمازيغية.
كما كانت لوزارة الثقافة وقفة خاصة لإحياء الذكرى ال 143 لرحيل مؤسس الدولة الجزائرية، من خلال عرض الفيلم الوثائقي «الأمير عبد القادر» للمخرج سالم إبراهيمي، بحضور عدد من ممثلي الحكومة والسلك الدبلوماسي بالجزائر ونخبة من رجالات الفن والثقافة.
الفيلم سلّط بدوره الضوء على حياة ومسيرة مرجع من مراجع الجزائر، الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري، الذي يعتبره التاريخ رجلا خارقا للعادة، جمع بين السياسية، الحرب، الحنكة والتسامح.
شهدت العاصمة أيضا تكريمات خلال شهر رمضان لعمالقة الفن الشعبي والأندلسي والحوزي، كما عرف فصل الصيف الكثير من الأنشطة الثّقافية والتّرفيهية الموجّهة للجمهور العريض والأطفال من خلال العروض البهلوانية والمسرحية والحفلات الفنية الساهرة التي نشطها كبار الفنانين العرب والجزائريين.
شهد المشهد الثّقافي هذه السنة إعادة افتتاح اتحاد الكتاب لمقرّه الرّئيسي بالجزائر العاصمة، ووجد فيه رواقين الأول باسم الأديبة والوزيرة السابقة الدكتورة زهور ونيسي والثاني باسم الكاتب والمفكر د - محمد العربي زبري. وأكّد القائمون على هذه الهيئة التي عرفت إبحارا وسط العواصف لمدة طوية على انطلاقة جديدة، تشمل في أول الأمر العمل على إعادة الاعتبار للمبدع الجزائري، وتشجيع الكتابة والاصدار لدى الشباب والمرأة بكل اللغات.
اهتمام كبير بالسّينما، الأرشيف والمسرح
أحيت الجزائر أيضا سنة 2017 الذكرى الستين لميلاد السينما الوطنية، وجعلت من الحدث مناسبة للحديث مليا، واتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ وأرشفة وتثمين تراث الفن السابع والإنتاج السمعي البصري وحتى الرقمي، الذي يعتبر إرثا ثقافيا وذاكرة وطنية وتاريخية للأجيال القادمة.
ومن بين الأماكن التي استقطبت الأضواء هذه السنة دار الأوبرا بوعلام بسايح، التي عرفت إحياء العديد من العروض الفنية العالمية والوطنية، نذكر منها عرض الفقاعات والبالي الهندي، واحتضانها للمهرجانات كمهرجان الرقص المعاصر، ومهرجان الموسيقى الكلاسيكية، وكذا حفل تكريم دولي للفنانة الكبيرة فيروز.
وشهدت العاصمة أيضا عروضا شرفية وأولية لأفلام جديدة على غرار أفلام ابن باديس، الحناشية والبئر المرشّح للأوسكار، فيما لفت المسرح الوطني عبد الحميد بشطارزي الأنظار هو الآخر من خلال العروض الناجحة لمسرحيات «طرشاقة، كشرودة وبهيجة»، التي تحصّلت على جائزة أحسن نص في مهرجان قرطاج بتونس.
ومن بين المحطّات الملفتة للانتباه أيضا المهرجان الدولي الـ 10 للشريط المرسوم بالجزائر العاصمة (فيبدا)، الذي إقيم بقصر الثقافة بالجزائر العاصمة بمشاركة 17 بلدا مع اختيار فرنسا كضيف شرف لطبعة 2017.
والمؤكّد أنّه وبالرّغم من ترشيد النّفقات وتقليص عدد المهرجانات مقارنة بالسنوات الماضية، وبالرغم من عديد النّقائص المسجّلة، يبقى تشجيع الثقافة قائما والتحفيز على مواصلة الابداع والعطاء الفني، وإشراك كل الفاعلين في الميدان وتشجيع الاستثمار في مجال قد يعود بالفائدة على الجميع.