استقبل جمهور من الطلبة والأساتذة بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر 2، في ندوة أقيمت بالمناسبة، بحفاوة صدور الترجمة العربية لمجموعة آسيا جبار القصصية «نساء الجزائر في شقتهن» بإشراف الأستاذ عبد القادر بوزيدة وإنجاز فريق من الطلبة المترجمين.
الندوة العلمية المنظمة بالمناسبة شهدت نقاشا شمل جوانب عدة من مجموعة الأديبة آسيا جبار الصادرة عن دار «فام» عام 1980، ثم في طبعة مزيدة عن دار «ألبان ميشال» عام 2001، وهي النسخة المترجمة من قبل فريق الأستاذ بوزيدة في إطار تعاون بين مؤسستي «المركز الوطني للكتاب» في كل من الجزائر وفرنسا، وصدرت عن «دار حبر» في الجزائر في 2017.
لغة التّرجمة والمحمول الثّقافي الجزائري في مجموعة آسيا جبار
من أبرز النّقاط التي أثيرت في الندوة من قبل الطلبة والأساتذة، لغة الترجمة والمحمول الثقافي الجزائري في مجموعة آسيا جبار، لا سيما النسوي منه، وترجمة عنوان المجموعة وعلاقته بلوحة الرسام الاستشراقي الفرنسي أوجان دولاكروا «نساء الجزائر في مخدعهن» (1834) وسلسلة لوحات بابلوبيكاسو: «نساء مدينة الجزائر» (1954 - 1955).
حرّرت «نساء الجزائر» من مخدع دولاكروا الاستشراقي الاستعماري
يعود اهتمامي بـ «نساء الجزائر» لآسيا جبار ودولاكروا وبيكاسو، وغيرهما من الفنّانين التّشكيليّين العالميّين إلى زمن عملي في الإعلام الثقافي الجزائري والعربي، وإلى تخصّصي الجامعي في الأدب المقارن، وكذا اشتغالي بالترجمة، فضلا على أنّني من نفس المدينة التي احتضنت طفولة الكاتبة الجزائرية العالمية ـ فاطمة الزهرة إيملحاين ـ اسمها الحقيقي ـ أو آسيا جبارـ كما احتضنت جثمانها مسجى في مثواه الأخير، وأخيرا صلة القرابة التي تجمع عائلتي إيملحاين مع إيزغلاين في شرشال...
أما بخصوص صنيع آسيا جبار العنواني، فقد تذهب الملاحظة الساذجة بإزائه إلى توهم أن الأديبة الجزائرية لم تفعل سوى نسخ عنوان لوحة دولاكروا التي عرضت أمام الجمهور الفرنسي في 1834م: «نساء الجزائر في مخدعهن»، أي بعد أربع سنوات من احتلال الجزائر. وهو ما قامت به آسيا جبار بالتأكيد...ولكن لماذا؟
تقتضي الإجابة عن هذا السؤال البسيط المواجهة بين مشروعي حياة أو موت لأمتين، أوعلى الأقل تلاش مؤقت لإحداهما تحت إرادة القهر لدى الأخرى، على رقعتين ورقيتين، وكذا على الإقليم الجغرافي على امتداد أكثر من قرن وثلث القرن من الزمن أو بالأحرى التاريخ أو يزيد. إن نسخ عنوان بشهرة عنوان لوحة دولاكروا لهو، من جهة، لفتة ذكية وفعّالة من جانب الأديبة الجزائرية في تسويق عملها بلغته وشكله الأدبي وحمولته الوجدانية والثقافية ـ الفنية والسياسية، وسط الجمهور الناظر والقارئ ضمن الأمتين المتواجهتين. ويشكل النسخ، من جهة أخرى، استبدال موضوع كان منفعلا في البداية مع دولاكروا ـ نساء مدينة الجزائر ـ بموضوع صار فعالا مع آسيا جبار في المستويات: القومي والوطني والفردي والجنسي. فمقابل صورة «نساء مدينة الجزائر» الاستشراقية الاستعمارية البصرية: بما تعرضه من جسد المرأة الذابل والمغري، المحاصر والمسجون في زاوية ضيقة من مخدع موريسكي في مدينة الجزائر، جسد يستجير بمن يحرّره كي يطلق العنان لطاقة الإمتاع والانعتاق فيه على نمط الاستعماري الفرنسي، مقابل ذلك تنشأ بالنسخ نفسه صورة محلية أصيلة مغزولة من جنس المادة التي تتقن «نساء مدينة الجزائر»، ونساء سائر مدن البلد ـ وليس العاصمة فقط ـ تتقن غزلها، وهي اللغة أو الحديث بشتى أشكاله ومستوياته التعبيرية والفنية. وهو الشيء الذي لم تقصر جبار في تمثيله في «نسائها»، بل بذلت جهدها من أجل الوصول به إلى أقصى فعاليته، وذلك من خلال ضمّها ريشة شاهد من أهل دولاكروا إلى صوتها، ألا وهي ريشة الرسام التكعيبي الإسباني بابلو بيكاسو، الذي نسخ بدوره «نساء مدينة الجزائر في ...» وحررهن من «مخدع دولاكروا» الامتثالي والمستكين، واستنسخهن في سلسلة من 17 لوحة (1954 - 1955) تكرّر بتصميم إرادة التحرر الذاتي بالفعل خارج مخدع دولاكروا وسجن صورة الاستشراق التشكيلي الاستعماري
لماذا مخدعهن وليس شقّتهن؟
لا مفر من الاعتراف مقدما بأنّ الأدب حمل أوجه في دلالته وإيحائه، إلا أن تاريخ الاستعمالات اللغوية ودلالاتها في الثقافات المختلفة يقيد المترجم في اختياراته ويضبطها ويقربه من الموضوعية في اختيار العبارات والكلمات والصيغ اللغوية والصور الأدبية في لغة الوصول المقابلة لنظيرتها في لغة المنطلق.
ومن هنا فالكلمة المكافئة دلاليا لـ Appartement الواردة في عنواني لوحة دولاكروا ومجموعة آسيا جبار، والتي تعني «المسكن المؤلف من عدة غرف لاستعمالات مختلفة في بناية تضم عدة مساكن» ليست «شقة» كما في ترجمة فريق أستاذنا بوزيدة وكذا ترجمة
«غوغل»، وإنما مخدع. وهذا لعدة اعتبارات، منها:
* إن لوحة دولاكروا تظهر بوضوح جزءا من حجرة أو بيت نساء الجزائر ـ وهو بالضبط مدلول كلمة مخدع ـ وليس مجموع الحجرات التي تتشكل منها «الشقة».
* ورد في معجم الصحاح للجوهري في شرح كلمة «مخدع»: «البيت الصغير يكون داخل البيت الكبير». ويستشهد صاحب المعجم على هذا المعنى وتخصيصه للنساء بقول مسيلمة: ألا قومي إلى المخدع، فقد هيئ لك المضجع؛ فإن شئت سلقناك، وإن شئت على أربع...إلخ. فالمخدع إذن، هوالفضاء البيتي الحميمي المفرد والخاص بالنساء. أما كلمة «شقة» فلم تعتمد في معاجم اللغة العربية إلا في سنة 1974 من قبل المعجمي اللبناني الأب جروان السابق في معجمه الوسيط ثلاثي اللغات. ويورد محمد الباشا في معجمه «الكافي» (1992) كلمة «شقة» ـ بفتح الشين ـ : «مسكن في بناية تنفرد أسرة في سكاه»، ثم يعلق بـ «محدثة»، أي كلمة جديدة في الاستعمال. فكيف إذن القبول بكلمة «شقة» التي تعني المسكن متعدد الحجرات وفي بناية وقيدت في الاستعمال العربي في 1974، مقابل كلمة «Appartement» التي جسّدتها لوحة دولاكوا بالألوان والأبعاد الهندسية بوضوح تام في جزء فقط من حجرة أومخدع موريسكي في مدينة الجزائر؟! ألا يوقعنا ذلك في ما يسمي في المفارقة الدلالية التاريخية؟!
مفارقات ومقاربات في ترجمة المجموعة القصصية
أما بخصوص الترجمة المجموعة القصصية في حد ذاتها، والتي هي في الحقيقة ترجمة على ترجمة آسيا جبار ـ كما تقول ـ «قصص مترجمة من...»، ولكن من أيّة لغة؟ من العربية؟ من عربية شعبية؟ أو من عربية أنثوية؟ بقدر ما يمكن القول من عربية مدفونة - مخزونة - في جوف الأرض. «إن مبدأ العمل هنا واضح..ويتمثل في البحث عن لغة أدبية تمتح من اللغة والموروث الشعبي النسوي الجزائري قدر الإمكان...وهو ما يدفعنا للتساؤل، مثلا، عن وجاهة اختيار كلمات من قبيل: «خجل» المدرسية في عبارة: «يشربون الخمر بلا خجل» مع وجود كلمة «حشمة» الشعبية والمدرسية الفصيحة في آن، واختيار «المنبع» في عبارة: «كان التقى بها في طريق المنبع»، مع وجود كلمة «العين» المتداولة في اللغتين الشعبية والمدرسية، وكذا كلمة «ابنا» في عبارة «لأنها لم تنجب ابنا» مع وجود كلمة «ولد» في اللغتين وخلو اللغة الشعبية من ابن بمعنى ولد. الواقع أننا نلمس منذ السطور الأولى لترجمة المجموعة ارتباكا واضحا في التقيد بخصوصية النص القصصي صياغة ومعنى. وربما يعود هذا إلى جماعية هذه الترجمة؛ حيث توزع المجهود اللغوي والفكري والذوقي والجمالي على أنامل كثيرة أضاعت بين أطياف رؤاها المتعددة وحدة بصمة المبدعة الأولى بالرغم من المجهود المبذول من قبل أفراد الفريق المترجم ومنسقها.
التّرجمة الأدبية حمالة أوجه واختيار شأنها شأن النص الأدبي الذي تنقله من لغة في لغة أخرى
ومع هذه الملاحظات، تبقى الترجمة الأدبية حمالة أوجه واختيارا شأنها شأن النص الأدبي الذي تنقله من لغة في لغة أخرى. وإن انتظار بلوغ الكمال في هذا الشأن لهو كانتظار رؤية «الملح يزهر أو ينوّر»، كما يقول الجزائريون. ألا نتذكّر العبارة المتداولة كثيرا وسط التراجمة: «الترجمات شأنها تماما شأن النساء، كي تبلغ الكمال ينبغي لها أن تكون جميلة وأمينة في آن».
فلنحتف إذن بهذه الترجمة، ولنقبل بتعدّد الآراء والاعتراف بتلاقحها المثمر بوجودها لا بإلغائها.