بحديثنا عن الثقافة والمثقف في الانتخابات المحلية المقبلة، فإنّنا نتطرّق إلى ثلاثة مستويات من التحليل: الأول هو الثقافة ذاتها، ومدى حضورها في برامج الأحزاب عموما، ومرشّحيها على المستوى المحلي خصوصا، والثاني هو المثقّف وحضوره في الفعل السياسي، وإذا كان الكلام يدور عادة حول المثقف كصانع وموجّه للرأي العام في القضايا الكبرى للأمة، فإنّنا نركّز هنا على دوره الجواري، ومدى تأثيره الإيجابي في محيطه المباشر، أسرته وحيّه ومدينته وبلديته. أما المستوى الثالث فهو السياق السياسي والاجتماعي والقيمي للثقافة والمثقف.
قبل ما يزيد عن سبعة أشهر، وبالضبط قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة، كنت قد كتبت مقالا ضمن «الملف الثقافي» لـ «الشعب» عنوانه «المثقّف..حجر الميزان في علاقة السلطة بالشعب». كنت قد أشرت حينها إلى تعريفات المثقّف المتعدّدة، والدور السياسي للفنون، كما تحدّثت عن غرامشي الذي ميّز بين نوعين من المثقفين، المثقف العضوي الذي يحمل هموم جميع الطبقات وقضايا أمته وشعبه، ويستمر في العطاء جيلا بعد جيل، والمثقف التقليدي الذي يعتقد بأنه فوق الجميع، ويكون للمثقفين دور فعال في التغير والتغيير الاجتماعي إن هم التزموا بقضايا الشعب الأساسية التزاماً عضوياً. وأشرت أيضا إلى إدوارد سعيد وكتابه «المثقف والسلطة»، وكيف ركّز سعيد على صورة المثقف غير القابل للتطويع، الصادق في آرائه والحامل لمسؤولية اجتماعية وسياسية تجاه مجتمعه، وكيف أنّه يواجه أشكال التنميط والجمود لأن لديه في الغالب الفرصة بأن يكون عكس التيار.
كلّ ما سبق صالح لكي نستشهد به في سياق المحليات، كما كان صالحا خلال التشريعيات، لسبب بسيط وهو أن العملية السياسية هي واحدة، وهي سلسلة تكمّل حلقاتها بعضها البعض، ولكن للمحليات خصوصية، وهي طابعها الجواري والقرب الكبير من المواطنين ومن همومهم وانشغالاتهم المباشرة، ما يجعل الإقبال عليها أكبر وأوسع.
النسبة لمستوى التحليل الأول، وهو الثقافة، فإن تجسيد سياساتها والإحساس بثمار الجهود المبذولة في سبيل إنعاشها وترقيتها لا يكون إلا على المستوى المحلي. ولكن غالبا ما ينصب اهتمام المنتخبين المحليين على تزويد الأحياء بالمدارس والمستشفيات والأسواق والملاعب، ولكن نادرا ما يتصدر بناء مسرح أو قاعة سينما قائمة المشاريع المحلية.
وإذا انتقلنا بهذا المثال إلى مستوى التحليل الثاني، وهو المثقف، فإننا نجد المثقفين في حالة من التشرذم والفرقة وقلّة التنظيم، ما يجعلهم فاقدي التأثير على المستوى الجماعي، وسلبيي التفاعل على المستوى الفردي، ما يفقدهم كل قدرة على توجيه الرأي العام على مستواهم المحلي.
وهكذا، يتّضح من السياق العام، وهو مستوى التحليل الثالث، نقص فادح في إدراك أهمية الثقافة ومدى تأثيرها، أو اختزالها في الفلكلور والمناسباتية، بل وقد تسود أحيانا أفكار مغلوطة بأن الفعل الثقافي تبذير للمال العام، وتبديد للثروة في عز الأزمة والتقشف، أفكار يجدر بنا الاعتراف بأنها تدعّمت بأمثلة من الواقع كرّستها ممارسات غير مسؤولة في تظاهرات ثقافية وطنية، كما أن الأحزاب السياسية وفواعل المجتمع المدني لم تبذل جهدا يذكر في تصحيح هذه النظرة الدونية للثقافة، التي باتت تتوسع أكثر فأكثر.
وهكذا يتّضح لنا أن السياق العام يبدو كفسيفساء تجمع عديد القطع التي تكوّنها، فمن جهة نجد عزوف المثقف على الانخراط في الفعل السياسي، وإذا كان يتحجّج أحيانا بصعوبة الأمر على المستويات العليا، فإنه يفقد هذه المبررات على المستوى المحلي.
ومن جهة أخرى، نلاحظ عدم اهتمام الأحزاب السياسية بالثقافة بشكل عام، أو النظر إليها على أنها العجلة الخامسة في المركبة، وقد يعود ذلك إلى المحيط العام، وما يسوده من اعتقاد بأن الثقافة ليست أمرا أساسيا في الشؤون اليومية للمجتمع. أما عدم ترشيح الأحزاب للمثقفين، فقد يكون سعيا وراء جمع أكبر عدد من الأصوات الانتخابية، وهو ما قد يكفله صاحب الشعبية و»الشهرة» على غرار «بائع العصير في أحد الأسواق»، كما قال لنا منذ سنوات رئيس حزب جزائري.
وبين هذا وذاك، تبقى الثقافة على المستوى المحلي بلا صوت يدافع عنها، ولا مبادر يعمل على تجسيدها، ولا رقيب يسهر على ترشيد مشاريعها وتظاهراتها، وهي نقائص يصعب تقويمها على المدى القريب، بل هي استثمار طويل الأمد، أهم ميزاته طول النفس والمثابرة، وأهم أهدافه الأجيال الصاعدة، لأن النشء هم الأرضية الأمثل لأي استراتيجية ثقافية وقيمية بعيدة الأمد، أو دعنا نسميها: مشروع مجتمع.