تعتبر ظاهرة غلاء المهور من الأسباب القوية التي تعصف بالنسيج الاجتماعي، لأنّها تقف وراء الانحلال والفساد الأخلاقي الذي أصبح موجودا بقوة في السنوات الأخيرة.
لتسليط الضّوء على الموضوع، نقلت «الشعب» هذه العيّنة من باتنة، ووقفت على حقائق تقف عائقا أمام إتمام الشباب لنصف الدين.
غلاء يضرب بالعلاقات الاجتماعية
في هذا الصّدد، تؤكّد إحدى السيدات التقينا بها بممرات بن بولعيد بوسط مدينة باتنة، أن للأسرة دور كبير في الحد من هذه الظاهرة التي أثقلت كاهل الشباب ومنعتهم من إتمام نصف دينهم، حيث أشادت السيدة «فتيحة ـ خ» إلى دور الآباء والأمهات في مرافقة والتحكم في عملية الزواج من بدايتها إلى نهايتها من خفض قيمة المهور بحذف بعض الطلبات، حيث قالت: «في كثير من الأحيان يحاول الوالدان التخفيف من تكاليف تحضيرات زواج ابنتهما برفع سقف الطلبات من زوج المستقبل، الذي يجد نفسه في دوامة خاصة وأنه هو الآخر معنيّ أيضا بتحضير حفل زفافه، ما يجعله في وضع لا يحسد عليه، وفي كثير من الأحيان تضمحل بسببها فرحة اللقاء والارتباط».
«محمد»، 50 سنة، موظف بإحدى المؤسسات العمومية يقول عن الظاهرة:
«أعتبر نفسي ضحية هذه التقاليد البالية التي جعلت الزواج صفقة حقيقية يعقّدها أهل الفتاة مع الشاب، الذي يجد نفسه في مصيدة أوقعته داخلها الفتاة التي تتلاعب بمشاعره وتفرش له الطريق ورودا، وتقول أنّها لا تريد منه شيئا وأنّ طلبها الوحيد هو إكمال حياتها معه، ولكن بمجرد طلب يدها تنقلب الآية، فيشترط الوالدان على زوج المستقبل ما لا يطيق كالحلي والمجوهرات والملابس، وكل شيء يرضي عقدة التباهي أمام الأقارب والأحباب...».
وأضاف «محمد» قائلا: «وكأنّ ابنتهم بقرة قيمتها تحدّدها قيمة المهر»، وعادت به الذاكرة إلى ما حدث له في الماضي قائلا:
«أتذكّر أنّني منذ عشر سنوات تقريبا تقدّمت إلى فتاة رأيت فيها زوجة المستقبل، وعندما قابلت والدها قال لي بالحرف الواحد المثل الذي يتداوله الكثير من الأولياء أمام الخاطب: «كسّي وادّي..أنا اشريت راجل. وأنّ الهدف من تزويج ابنته بناء أسرة...».
ولكن يواصل «محمد»: «مع اقتراب موعد الزواج بدأت تتهاطل الطلبات، ووصل به الأمر إلى مطالبتي بكراء قاعة الحفلات لإقامة العرس، بالإضافة إلى الكثير من الشروط التعجيزية التي تحول دون إتمام الزواج. في الحقيقة كان ردّي واضحا وقاطعا، فقد فسخت الزواج وأنهيت هذه المهزلة لأنّني لا أستطيع ربط حياتي مع امرأة استغلالية».
أما «ح ـ ل» وهي سيدة تزوجت بهذه الطريقة، وبالتالي قالت بشأن الموضوع: «لقد جرت العادة أن ترهق العروس أهلها ماليا لاقتناء تجهيزات للمنزل الجديد، والكثير من الحاجيات الأخرى وجهاز به كل ما تحتاجه لعدة سنوات، وهذا كله يعود في النهاية إلى العريس الذي يجد بيتا مليئا بكل التجهيزات التي يحتاج هو لعدة سنوات لتوفيرها، وعليه فلا حرج في دفع المهر ما دامت العروس توفر من البداية كل شيء، فالمهم هو الزواج وإبعاد شبح مخيف اسمه العنوسة، لأنّ المجتمع لا يرحم».
وأضافت «ح ـ ل» قائلة: «حسب رأيي أن تدفع الفتاة مهرها وتساعد زوجها في تجهيزها خير من أن تبقى كالبقرة الحلوب لإخوتها وأهلها، الذين ومع مرور الزمن تصبح العانس بالنسبة لهم مجرد رقم تتقاضاه كل نهاية شهر».
تقاليد بالية
تتعقّد تقاليد الزواج في الجزائر من سنة لأخرى بسبب «عقلية أولياء العرائس»، والذين يكفي أن يتقدم شاب لخطبة ابنتهم لتبدأ عملية «المساومة»، حيث يضعون حسب تجارب حقيقية وواقعية نقلها مواطنون من باتنة لـ «الشعب»، حول مقاييس ومعايير غريبة إلاّ أنّها تتّفق جميعا في «الضريبة» التي سيدفعها المتقدم للزواج، حيث أصبح الأولياء يزيدون عن المهور المتعارف عليها في مناطق سكناهم أو في أعراشهم.
تكاليف مالية باهظة وإضافية ترتبط بوضع «العروس» ومستواها التعليمي وطبيعة وظيفتها، وحجم راتبها الشهري ومستواها الاجتماعي، وغيرها من الشّروط التّعجيزية، التي سرعان ما يملّ منها الخاطب، ليبدأ الشاب في التفكير في خيارين أحلاهما مر،إما التراجع عن فكرة الزواج نهائيا أو على الأقل تأجيله إلى أجل غير مسمى، أو الدخول في متاهة الديون، حيث «يغرق» في دوّامة مالية قد تهدّد مستقبله حتى قبل أن يبدأ، حيث تحول الزواج من إكمال لنصف الدين إلى مصالح وحسابات «ضيقة ومالية» تجمع بين الأفراد والعائلات.
مناطق تحدّد «أغلفة مالية»
ضخمة كمهور
يختلف تحديد قيمة مهر الزواج من منطقة لأخرى، وتتصدّر ولايات الجنوب الجزائري الكبير المناطق الأكثر غلاء في المهور، حيث يصل إلى 110 مليون كأقصى حد ولا يقل عن 30 مليونا، حسب ما أكدته لنا الطالبة الجامعية «منى» القاطنة بولاية ورقلة، في الوقت الذي يقع على عاتق العروس تأثيث البيت وتجهيزه في أحيان كثيرة، والتي غالبا ما تعتمد على الهدايا التي تتلقاها من الأقارب والمدعوين لتتمكن من ذلك.
وأشارت «منى» في حديثها لـ «الشعب»، أنّ أغلب المدعوين في الجنوب الجزائري أصبحوا يفضّلون مساعدة العروس على تجهيز نفسها بدلا من منحها المال كهدية.
كما نجد أنّ مهر العروس في الغرب الجزائري مرتفع نسبيا مقارنة بالشرق الجزائري، حيث تفضّل عرائس الغرب الجزائري الذهب كهدايا مرافقة للمهر الذي يتجاوز الـ 15 مليون سنتيم، أما في منطقة الشرق الجزائري كالأوراس أين نجد أن الأمر يختلف «في التفاصيل» من ولاية لأخرى، غير أنّ الجميع يتّفق على أنّ المهر الخاص بالبنت البكر يفوق الـ 15 مليون و7 ملايين للثيب، ونسجّل استثناء واحد بكل القطر الوطني، في منطقة القبائل الكبرى، حيث ما يزال ولي العروس يكتفي بمهر ذي قيمة رمزية.
ويأتي هذا الغلاء «الفاحش» في المهور، نتيجة تغير القيم في المجتمع وارتفاع الأسعار في كل السلع
التي تدخل في قائمة «جهاز العروس»، إضافة إلى عقدة التباهي التي تعانيها الفتاة وأهلها، ولن يكون غلاء المهور سوى وسيلة لتسديد تكاليف حفل الزفاف.
تغيّر المفاهيم والقيم الاجتماعية
وكشفت الأخصائية في علم الاجتماع «سامية ـ ط»، أنّ تغير المفاهيم والقيم الاجتماعية بالجزائر خاصة في العشرية الأخيرة، ساهم في غلاء المهور
وجعل الأولياء يطالبون بالزيادة في كل مناسبة
بحجج كثيرة منها ضمان مستقبل بناتهن، وغلاء المعيشة، الأمر الذي انعكس سلبا على المجتمع خاصة مع الارتفاع الرهيب للعنوسة التي طالت حتى النساء والرجال، ما أدى من جهة أخرى إلى انتشار مفاسد أخلاقية أضرت بالنسيج الاجتماعي.
كلمة أخيرة
رغم عديد المحاولات لوضع حد لهذه الظاهرة من خلال مبادرات الزواج الجماعي حسب ما تبادر به مديرية الشؤون الدينية والأوقاف بباتنة، وبعض الجمعيات الناشطة في الميدان على غرار جمعية «زهرة الأمل» الثقافية، ما قدّمته وتقدّمه من دعم ومساعدة للعرسان الشباب لإكمال نصف الدين من خلال التضامن والتكافل الاجتماعي، غير أنّ الظّاهرة تستدعي فعلا تدخّلا لحشد الجهود والطاقات للخروج بمواثيق شرف إما رسمية أو مجتمعية على الأقل، لتحديد ضوابط للحد من الظاهرة التي ارتبطت بالجهل وبتقاليد لا تمت بصلة إلى الدين والأخلاق والإنسانية، وفطرة الله التي فطر الناس عليها وبدورة الحياة عموما.
ولعلّ الحل يكمن في العودة إلى تعاليم ديننا الحنيف التي تحثّ على الزواج وترغب فيه وتبارك التقليل في المهور، كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: «أقلّهن مهرا أكثرهنّ بركة».