في قلب مدينة معسكر النابضة بالحياة، تتجسّد قصّة إنسانية ملهمة، بطلاتها ثلاث سيدات فضليات، الممرّضة المتقاعدة بوقلمونة حليمة، وأستاذة الرياضيات بوحجر فتيحة، والممرّضة المتقاعدة شنين مريم، اللّواتي قرّرن أن يحوّلن فترة تقاعدهن إلى رحلة عطاء لا تنتهي، بانضمامهن إلى جمعية «بسمة» للعناية بالمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة المحلية، والتي تُعنى بإطعام عابري السبيل والمحتاجين خلال الشهر الكريم.
تبدأ يوميات السيدة حليمة المليئة بالخير منذ ساعات الصباح الأولى، وتلتقي بفريق العمل الذي يقوده رئيس الجمعية شرواطي سيد أحمد، في حدود الساعة السابعة صباحا، وهي ساعة مبكرة جدا، بالنسبة لمن تنتهي سهراتهم الرمضانية فجرا، ليغطوا ساعات الصيام في النوم، لكن بالنسبة لفريق الجمعية فالأمر يختلف، حيث يمضون يوما كاملا من النشاط والخفة داخل مطعم السبيل، الواقع بجانب دار القيادة للأمير عبد القادر.
مـــطـــعـــم الـــرّحـــمـــة وتـــاريـــخ الأمـــير عـــبـــد الـــقـــادر
يقول رئيس جمعية «بسمة» للعناية بالمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، سيد أحمد شرواطي، أن موقع مطعم الرحمة يمتلك رمزية تاريخية عميقة، ومن محاسن الصدف يتلاقى العمل الخيري للجمعية، بالعمل الإنساني للأمير عبد القادر، بداية تأسيس جيشه وزمالته، مشيرا إلى أن موقع مطعم الرحمة لا يبعد سوى بضع أمتار عن «دار المتوحمات» التي أنشأها الأمير عبد القادر للعناية بالمرضى والأمهات الحوامل من زوجات جنوده، والملاصقة مع دار القيادة للأمير عبد القادر، ويضيف سيد احمد شرواطي «أدعو الجميع إلى تخصيص جزء من وقتهم وجهدهم للعمل الخيري، فالعطاء هو أجمل ما في الحياة، وهو الذي يمنحنا السعادة الحقيقية».
الــــتّـــحــــضــــير لــــلـــوجـــبــــات.. عــمــل دؤوب مــنــذ الــفــجــــر
تبدأ يوميات فريق عمل مطعم الرحمة للجمعية، بتجهيز قائمة وجبات الإفطار، حيث يستقبل رئيس الجمعية سيد احمد شرواطي المؤونة المشكلة من الخضر والفواكه واللحوم في الساعات الأولى من الفجر، بينما يصل فريق عمله في حدود الساعة السابعة صباحا، ليبدأن في تجهيز وجبات الإفطار، حيث تنشغل الأستاذة المتقاعدة بوحجر فتيحة بمراجعة قائمة المستلزمات الضرورية لإعداد وجبة الافطار، وتنهمك حليمة بوقلمونة في تنظيف الخضر واللحوم تحضيرا لطهيها بمساعدة زميلتها المتقاعدة شنين مريم، لتبدأ عملية تحضير الوجبات الساخنة في حدود الساعة العاشرة صباحا.
تـــوزيـــع الـــوجـــبـــــات.. تــنــظــيــم وإشـــراف دقــــيـــق
في المطبخ المتواضع التابع لأحد مطاعم الخواص، تتكاتف الأيدي لإعداد وجبات شهية ومغذية ومتنوعة، في وقت تصل مطعم الرحمة عشرات القفف لاستلام وجبات الإفطار في حدود الساعة الثالثة بعد الظهر، حيث تتسلم الاستاذة بوحجر بدقتها وتنظيمها مهمة الإشراف على توزيع الوجبات بشكل عادل ومنظم، مستغلة مهاراتها في التواصل والتنظيم في ترتيب قوائم المستفيدين وتوزيع المساعدات.
شـــهـــادات الــــعـــطـــاء.. ســــعــــادة لا تـــضـــاهــــى
تقول الممرضة المتقاعدة حليمة بوقلمونة: «بعد سنوات من العمل في المجال الصحي، أدركت أن الصحة ليست مجرد علاج للأمراض، بل هي أيضًا توفير الغذاء والدواء للمحتاجين، فعندما أرى السعادة في عيون هؤلاء الأشخاص الذين يتناولون وجبة ساخنة، أشعر بسعادة لا تضاهيها أي سعادة أخرى»، أما بالنسبة للأستاذة بوحجر فتقول «كنت دائمًا أؤمن بأن العلم يجب أن يُستغل في خدمة الإنسانية. واليوم، أجد في هذا العمل الخيري تطبيقًا عمليًا لهذا الإيمان. فكل وجبة نُقدمها هي بمثابة معادلة بسيطة، ناتجها هو السعادة والأمل».
ســـرّ نجـــاح الجـــمـــعـــيــــة
ويتابع شرواطي أن أعظم نجاح حققته جمعيته الخيرية، هو الحصول على دعم سكان مدينة معسكر ومحسنيها، ويضيف: «كلما فقدت الأمل في إعداد إفطار عابري السبيل لليوم التالي، تصلني العشرات من الاتصالات من المتبرعين، وذلك أمر يستحق الفخر والاعتزاز بما نقوم بها في الجمعية، خاصة خلال شهر رمضان»، ويقول المتحدث إنه كثيرا ما يحاول إضفاء لمسة من الفكاهة اثناء العمل على اعداد وجبات الافطار للمعوزين وعابري السبيل، ليخفف التعب عن فريق عمله، ويتابع «في نهاية اليوم، تعود سيدات مطعم الرحمة لجمعية «بسمة» إلى منازلهن منهكات، ولكنهن يشعرن برضا وسعادة لا تضاهيها أي سعادة أخرى، فجميعنا ندرك اننا نساهم في تخفيف معاناة المحتاجين وزرع الأمل في قلوبهم».
الـــتـــّقـــاعـــد بـــدايـــة جـــديــــدة
ويعتبر فريق عمل مطعم الرحمة لجمعية «بسمة» بمعسكر نموذجًا ملهمًا للعطاء والإنسانية، لاسيما للسيدات اللواتي يساعدن في إعداد وجبات الإفطار بشكل يومي، حيث تقول الممرضة المتقاعدة شنين مريم، إن التقاعد ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لمرحلة جديدة من العطاء والخدمة، والعمل الخيري هو رسالة سامية يمكن للجميع المشاركة فيها.
بعد سنوات طويلة قضتها في خدمة المرضى داخل أروقة المستشفى، تضيف «قررت التقاعد والاستراحة من أعباء العمل، ولكن لم يكن التقاعد يعني لي الجلوس في المنزل والاستمتاع بالراحة، بل كان بمثابة فرصة جديدة لخدمة المجتمع بطريقة مختلفة، حيث كان انضمامي الى مطعم الرحمة لجمعية بسمة بمثابة متنفس لي».
وفي ختام هذه الرحلة الرمضانية المليئة بالعطاء والإنسانية، يظل فريق عمل مطعم الرحمة للجمعية في معسكر نموذجًا فريدًا يُحتذى به، يجسد أسمى معاني التكافل والتضامن في شهر الخير والبركة، فهؤلاء السيدات الفضليات، اللاتي أثرن ترك بصمة خير في مجتمعهن، يسطرن رسالة واضحة مفادها أن العطاء لا يعرف سنًا ولا تقاعدًا، وأن خدمة الإنسانية هي أسمى رسالة يمكن أن يؤديها الإنسان.