مناسبةٌ للإصلاح بين المتخاصمين وإعادة المرأة الغاضبة إلى بيتها
يؤكّد المختصّ في التراث والتاريخ الأمازيغيين، معمر بن سونة، الاحتفال برأس السنة الأمازيغية موروث توارثه الأجداد منذ قرون ويحتفل به كلّ الجزائريين منذ القدم.
تكمن أهمية الاحتفال في أنّه يعتبر معلما للتقويم بالنسبة لأجدادنا بحسب تعبير بن سونة المتخصّص في طب الأذن والأنف والحنجرة: “ سمي يناير برأس العام لأنّ أجدادنا كانوا يعدّون باقي شهور السنة الفلاحية، لأنّ النشاط الفلاحي الذي كانوا يعتمدون عليه يحتاج إلى رزنامة مضبوطة لتنظيم مختلف الأعمال مثل الحصاد، الدرس، الحرث، البذر، تخصيب التربة، جني الزيتون، جني التمور.”
وتحدّث بن سونة عن اقتران يناير بالمرويات: “ سمعت رواية قريبة في منطقة بني مناصر في جبال شرشال (تيبازة) يقول أصحابها بأنّ يناير ذكرى انتصار أجدادهم على الفراعنة، وثمّة رواية مشابهة لها في منطقتي الأوراس (باتنة) وبني سنوس (تلمسان)، بل نجد الطوارق يعتقدون نفس الشيء لما يحتفلون بعاشوراء، ولما تتكرّر المروية في كثير من المناطق يمكن أن تكون لها خلفية تاريخية بحسب علم الاجتماع.”
بدوره، يصف الأستاذ بجامعة خميس مليانة، مراد سالي، الاحتفال برأس السنة الأمازيغية على أنّه عادة متجذرة في المجتمع الجزائري رغم أنّ ظاهرة الاحتفال تراجعت بفعل الغزو الثقافي وأصبح الاحتفال لا يتجاوز أسوار البيوت بعدما كان يجمع بين عائلات متجاورة في السابق.
وتراجع الاحتفال برأس السنة الأمازيغية بحسب البروفيسور سالي مرتبط بتغيّرات كثيرة مسّت المجتمع الجزائري، من بينها نزوح سكان المناطق الجبلية الذين تركوا سكناتهم بجبال الأطلس البليدي في فترة التسعينيات، ممّا أدّى إلى اندثار اللهجة الأمازيغية التي مازالت قلّة قليلة من كبار السنّ يتكلّمونها، وبفعل هذا النزوح تخلّت كثير من العائلات عن نشاطها الفلاحي التقليدي واستقرّت بالمدن معتمدة على نموذج الحياة العصري.
هكذا تحتفل العائلات بـ “التراز” في البليدة
طريقة احتفال ولاية البليدة تتشابه كثيرا مع باقي مناطق الوطن لا سيما المجاورة لها، لكنّها تغيّرت في الفترة الأخيرة بفعل تغيّر نمط عيش السكان، وفي هذا الصدد، يتحدّث الأستاذ عن الماضي الجميل لمنقطة حمام ملوان التي ينتمي إليها: “لعلّ ما يُميّز الاحتفال في حمام ملوان، هو أنّ كلّ عائلة تجمع محصول السنة المنقضية من بقوليات وفواكه جافّة ومكسّرات وليلة 12 جانفي يقومون برميها على رأس الطفل الصغير، وكذا تحضير وجبة العشاء من المواد الفلاحية المنتجة محليا، والأكلات التقليدية مثل البركوكس والكسكسي والرشتة بحضور اللحم الذي مصدره في الغالب يكون من الحيوانات التي يقومون بتربيتها مثل الدجاج أو الديك الرومي أو الماعز”.
وتابع بالقول: “ لعلّ ما يُميّز حمام ملوان كونها منطقة سياحية مع بداية كلّ سنة ميلادية جديدة هو إقبال كبير للسيّاح والعائلات على محلات بيع الأواني الفخارية والتي يقتنوها من أجل الاحتفال بيناير.”
ويسبق الاحتفال بيناير المعروف بتسمية “ التراز” في البليدة عرض أنواع كثيرة من الحلويات والفواكه الجافة والطازجة والتي تُشكّل خليطا يُسمى “التراز” حيث ينثر على رأس صغير العائلة سهرة الاحتفال أيّ بعد تناول وجبة العشاء.
في هذا الصدد، يقول الدكتور بن سونة: “التحضيرات ليناير تشبه الترتيبات التي تسبق شهر رمضان، وتتمثل في طلاء جدران البيوت واستبدال الأواني الفخارية القديمة من باب التفاؤل..وفي القديم كان أجدادنا يستبدلون حجرات الكانون وتنقيته، وهذه التحضيرات عندها رمزية لاستقبال عام جديد بطاقة إيجابية. وفي وقتنا الحالي أصبحت العائلات تشتري أواني جديدة مع تغيير ديكور المنزل من باب الفأل على أمل أن تكون السنة الفلاحية مباركة ووافرة الخيرات..وكانت النساء توقف عملهنّ في النسيج كي تتفرّغ للاحتفال بيناير وتخبئ له أجود الفواكه والمأكولات لاهتمامهنّ البالغ به. “
تكمن أهمية يناير أنّه في القدم كانت تحتفل به العائلات الجزائرية مدّة أسبوع أيّ سبعة أيام وسبع ليال، ثمّ أصبح يدوم الاحتفال لثلاثة أيام أو يوما واحدا: “جلّ العائلات البليدية كانت تحتفل بيناير طوال ثلاثة أيام خلال العقود الأخيرة، فاليوم الأول مخصّص لتحضير الأطباق الشعبية باستخدام النباتات البرية مثل السبانج (السلق)، الفليو، القرنينة، أمّا اليوم الثاني سيخصّ لتحضير العيش أيّ باستخدام الحبوب بتحضير البغرير أو المسمّن أو الخفاف، ويعرف اليوم طهي اللحم مع أكلة تقليدية مثل الفطاير التي تشبه الشخشوخة أو الكسكسي، ومن العادات أن تتبادل العائلات ما تحضره في وجبة العشاء”.
ومن العادات التي مازالت العائلات متمسّكة بها لحدّ الآن بحسب محدّثنا، هو أنّ خليط الفواكه من الجوز واللوز والقسطل يستلزم تواجد حلوى مصنوعة من العنب معروفة باسم الكفتة والتي تحضر في المدية ومليانة أيضا، وكذا قلب شجرة الدوم المعروف باسم الجمار، ويُغطى “التراز” بوضعه في جفنة مع تغطيته بأوراق شجرة الريحان التي تبقى أوراقها خضراء طوال الشتاء وترمز إلى صمود الطبيعة.
ومن العادات الحميدة أن تتفضل المرأة الكبيرة في العائلة لتقسيم التراز بعد نثره على رأس الطفل الصغير لإسعاده وتوزّع هذا الخليط على كلّ أفراد العائلة بالتساوي، كما يحرص الجميع على التصدّق على المساكين وعابري السبيل ليضمنوا أنّ الجميع أكل جيّدا في فترة الاحتفال.
ومن بين العادات التي رفض بن سونة أن يعتبرها تطيُّرا، هو أنّ النسوة يلصقن جزء من العجين على أبواب المنازل وفي اليوم الموالي يقمن بتفقّد هذا الجزء، فإذا ما وجدوه مبللا فهذا دليل على تساقط قريب للأمطار فيشجّعون الرجال على الحرث، أما إذا وجدوه جافّا فهذا مؤشّر على الجفاف ومن الأفضل توفير الحبوب وعدم زرعها.
مدلولات تجسّد قدسية الاحتفال الشعبي
وللاحتفال بيناير مدلولات عدّة ومن خلالها تكمن أهميته القصوى، فمن الناحية الاقتصادية ينعش الحركية التجارية في الأسواق والأنشطة الحرفية ويعلم الأجيال الارتباط بالأرض، ويقول بن سونة في هذا الصدد: أجدادنا يدركون أهمية الأمن الغذائي وأهمية العمل وبأنّ من لا يزرع لا يأكل. “
وتابع المتحدّث مبرزا الأهمية الاجتماعية لهذه العادة: “يناير يعلّمنا التكافل الاجتماعي لأنّ من خلاله يتم الإصلاح بين المتخاصمين وإعادة المرأة الغاضبة إلى زوجها كما أنّه يجعل من الطفل الصغير مركز اهتمامنا، فالهدف من الاحتفال به هو إسعاد الأطفال وتعليمهم، فالأب يصطحب أبناءه لما يذهب إلى التسوّق أو إلى قطف الأعشاب، والأم تٌعلّم ابنتها كيف تُحضّر الطعام وتصنع الأواني الفخارية وتنسج الألبسة”.
واستعرض بن سونة أهمية يناير بالقول: “في فترة الاستعمار الفرنسي شكّل رمزا للحفاظ على الهوية الوطنية أمام محاولات الطمس، ومن خلال التمسّك به شكّل إحدى أدوات المقاومة الثقافية، وفي تلك الفترة كان يرفض أجدادنا الاحتفال برأس السنة الميلادية لمعاكسة المستعمر، حتى أن ظهر ما يُسمى بعيد العرب الذي أطلقوه على يناير أما عيد النصارى فهو الفاتح جانفي.”
ورغم الاختلافات الثقافية بين مناطق الوطن، فإنّ جلّها كانت تحتفل بيناير يقول بن سونة:« الطوارق وبن ميزاب يحتفلون بيناير في السابع جانفي ورغم أنّ هذا التاريخ مختلف لكن هدفه واحد، وبالتالي فإنّ كلّ الجزائريين يحتفلون بيناير، ممّا يؤكّد بأنّنا شعب واحد بغضّ النظر عن نمط العيش أو اللهجة التي نتحدّث بها.”
وأضاف قائلا: “الاحتفال بيناير مدوّن بالأرشيف الأندلسي في مراجع حول شمال إفريقيا، وخلال تلك الحقبة (حكم الدولة العثمانية) اعترض رجال الدين على احتفالات رأس السنة الأمازيغية ظنّا منهم أنّها وثنية، لكن في الحقيقة هي تندرج ضمن عادات وتقاليد وهي عفوية عائلية بسيطة جدّا ليس لها أيّ علاقة بالمعتقدات”.
واسترسل: “ نثمّن قرار ترسيم 12 جانفي يوما وطنيا يوحّد الجزائريين حول هويتهم الأمازيغية، وثمّة فريق بحث يجمع في كلّ المعلومات وربّما ستقدّم الجزائر ملفا إلى منظمة اليونيسكو لتصنيفه كتراث وطني، وعلينا تصنيفه من أجل حمايته بعيدا عن التجاذبات الإيديولوجية والسياسية...يلزمنا تصفيته وإبعاده عن البهرج والمزايدات التي لا تمتّ به بأيّ صلة، ونحافظ على روحه المتمثلة في العائلة والتكافل والتآزر، التراحم، وخدمة الأرض والتمسّك بها.”