أولياء ومدرّسـون يواجهون طغيـان العالم الرّقمي

عقـــول مُشتّتة.. أطفال في سجون الشّاشات

من الهواتف الذّكية إلى الأجهزة اللوحية، يقضي الأطفال ساعات طويلة أمام الشاشات، غارقين في محتوى سريع، مشتت للانتباه. وإذا أخذوا استراحة من هذه الأجهزة، ينتقلون إلى مشاهدة التلفزيون، حيث يتسم محتوى الأطفال بالسرعة والحركة والصوت المرتفع، مما يجعلهم في حالة تركيز مؤقت، لكنه يعزز تشتتهم في الحياة العملية.
خلال اجتماع لأولياء الأمور في إحدى المدارس، وتحديدا للمرحلة المتوسطة، عبّرت “أم أمير” عن قلقها، قائلة: “ابني لا يركّز في دروسه لأكثر من خمس دقائق، وإذا لم يكن الهاتف في يده، تزداد عصبيته ورفضه لكل ما يطلب منه”.
أيّدتها معلمة من المتوسطة، قائلة إنّ العديد من التلاميذ يواجهون صعوبة في تذكر التعليمات، وكأنّ عقولهم ترفض استقبال أي معلومات تحتاج إلى تفكير عميق ويكون التشتت سيد الموقف.
هذه الملاحظات ليست مجرّد حالات فردية، بل هي جزء من ظاهرة، في ظل الانتشار الواسع للأجهزة الإلكترونية في أيدي الأطفال واليافعين، وما تحمله من تأثيرات على سلوكهم بالبيت والمدرسة.
«أحمد”، طالب في المرحلة الثانوية، وصف يومه بابتسامة عفوية: “بعد الثانوية، ألعب على هاتفي حتى يحين وقت العشاء، وأحيانا أشاهد مقاطع فيديو قصيرة على يوتيوب. إنه ممتع جدا! كما أنني أظل على تواصل مع أصدقائي ونلعب ألعابا مشتركة، وبالطبع خلال ذلك أحل واجباتي وأدرس”.
هذا المشهد اليومي يعكس جزءا من حياة الكثير من الأطفال، حيث أصبحت التكنولوجيا عنصرا أساسيا، تفرض تحديات على قدرتهم على التركيز.
ويضيف أحمد أن والدته دائما غاضبة منه لأنه لا يركز مع حديثها، قائلا “الحقيقة أنني أسمع ما تقوله، لكن يدي وعقلي يكونان منشغلين باللعبة. أقول لنفسي عندما أنتهي مما في يدي سأفعل ما طلبته مني، لكنني بالتأكيد أنسى، وهنا تبدأ المشكلة المتكررة”.
بالنسبة للعديد من الأطفال واليافعين، يمثل الوقت أمام الشاشات وسيلة للهروب من الملل ومصدرا رئيسا للترفيه، خاصة في ظل مخاوف الأهل من لعبهم في الشارع بسبب القلق على سلامتهم، إلى جانب نقص المساحات المخصصة للعب. ومع ذلك، نادرا ما يدرك الأطفال كيف يؤثر هذا الاعتماد على الشاشات سلبًا على تحصيلهم الدراسي أو علاقاتهم الأسرية.
أما الأهل، فيدرك أغلبهم أن الإفراط في استخدام الأجهزة الإلكترونية يضر بقدرة أطفالهم على الانتباه والتركيز، لكن محاولاتهم للحد من هذا السلوك غالبا ما تصطدم بمقاومة الأطفال، أو تنتهي بالاستسلام بسبب صعوبة توفير بدائل، سواء لارتفاع تكلفة الذهاب إلى أماكن اللعب بشكل مستمر، أو بسبب نقص المساحات الآمنة التي تتيح لهم اللعب بحرية في الاحياء.
تقول إحدى الأمهات، وهي أم لطفلين في المرحلتين الابتدائية والمتوسط، خلال اجتماع المدرسة: “كلما حاولت تحديد وقت استخدام الهاتف، يبدآن بالصراخ والغضب، وكأنّني حرمتهما من شيء لا يمكنهما العيش من دونه”.
وفي منزل يضم ثلاث فتيات بأعمار متقاربة في الطورين الثالثة والثانية، يتحول استخدام الشاشات إلى موضوع جدل دائم. هذا الجدل لا يقتصر على ضبط الوقت، بل يؤدي في كثير من الأحيان إلى خلق فجوة في العلاقة بين الأهل وبناتهم، ما يزيد من صعوبة التواصل داخل الأسرة.
تقول والدة الفتيات إنّ ردود أفعالهن متكررة؛ إما ينسين ما طلبت منهن، أو يبررن إخفاقهن في الامتحانات بأنهن نسين ما درسن سابقا. أحيانا تشعر بأنها مضطرة للاستسلام للأمر الواقع، معتبرة أن التكنولوجيا أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة الأطفال اليوم.

ليس مجرّد مشكلة سلوكية

يعاني التلاميذ من تشتّت واضح داخل الفصول الدراسية، مع انخفاض ملحوظ في القدرة على الحفظ والاستيعاب. ويقول المختصون إنّهم وصلتهم ملاحظات من المعلمات بأن الطلاب والطالبات يعيشون في عالم آخر، حتى أن إحدى المعلمات وصفتهم بأنهم أشبه بالـ “زومبي”؛ يأكلون ويشربون، لكن عقولهم وتركيزهم غائبان.
وخلال مقابلات مع عدد من الطلاب والطالبات، لاحظوا أنهم يفقدون التركيز بسرعة شديدة، ويشعرون بالملل سريعا وينتقلون إلى شيء جديد، تماما كما لو كانوا يتنقلون بين مقاطع قصيرة على “تيك توك”.
ووفق النفسانيون، فإنّ الإدمان على الشاشات ليس مجرد مشكلة سلوكية، بل هو قضية تؤثر بعمق على النمو العقلي للأطفال واليافعين، وحتى البالغين. ويشرحون أنّ عقول الأطفال تتطور بشكل أسرع عندما يشاركون في أنشطة تتطلب تركيزا وإبداعا، مثل القراءة أو اللعب التفاعلي. ولكن عندما يقضون وقتا طويلا أمام شاشات تقدم محتوى سريع التغير، يفقدون القدرة على التركيز لفترات طويلة.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أنّ الأطفال الذين يستخدمون الأجهزة الإلكترونية بشكل مفرط يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نقص الانتباه وفرط الحركة. ولا يقتصر التأثير على الجانب العقلي فحسب، بل يمتد ليشمل الجوانب العاطفية والاجتماعية أيضا.
ولمواجهة هذا التحدي، يشدّد المختصون على أهمية أن يبدأ الأهالي بتحديد وقت محدد لاستخدام الأجهزة الإلكترونية، موضحين أن ساعة واحدة يوميا كحد أقصى للأطفال في سن المدرسة الابتدائية، وساعتان للمراهقين.
والالتزام الصارم بهذه القواعد، مع توفير بدائل مفيدة تشجع الأطفال على ممارسة الأنشطة التفاعلية والابتعاد عن الشاشات. ويوصي الخبراء بتعزيز الأنشطة البديلة، مثل الرياضة والفنون والموسيقا، حيث يساعد إشغال وقت الأطفال في أنشطة تفاعلية على تقليل رغبتهم في العودة إلى الأجهزة الإلكترونية.

التّوازن بين العالم الرّقمي والأنشطة الواقعية..الحل

كما يشدّدون على أهمية مشاركة الأهل في بعض الأنشطة الرقمية، سواء من خلال ألعاب تفاعلية أو برامج تعليمية، مما يسهم في خلق بيئة صحية وتعزيز التواصل الأسري.
ويؤكّد المختصون أنّها ليست عدوا، بل هي جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية ولا يمكن تجاهلها، لكنهم يحذرون من أن الإفراط في استخدامها من دون ضوابط يؤثر سلبًا على النمو العقلي والعاطفي للأطفال، والحل يكمن في تحقيق توازن حقيقي بين العالم الرقمي والأنشطة الواقعية، كما تقع هذه المسؤولية على عاتق الأهل والمدرسين على حد سواء لضمان مستقبل أفضل وأكثر توازنا للأجيال المقبلة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19676

العدد 19676

السبت 18 جانفي 2025
العدد 19675

العدد 19675

الخميس 16 جانفي 2025
العدد 19674

العدد 19674

الأربعاء 15 جانفي 2025
العدد 19673

العدد 19673

الثلاثاء 14 جانفي 2025