تـزداد بهـاء فـي احتفال المولد النبوي الشريـف

وهران..شموع وأذكـار في حضرة الأنوار

مسعودة براهمية

 لا تزال ولاية وهران تحافظ على طابعها التقليدي الأصيل في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، حيث يجسد سكانها ارتباطا عميقا بعادات متجذرة تناقلتها الأجيال، وظلت ثابتة رغم التحولات الزمنية ومظاهر الحداثة المتسارعة.

 ومع حلول ذكرى المولد النبوي الشريف، تتزيّن وهران بألوان الفرح وتغمرها أجواء احتفالية ساحرة، فتتسلل البهجة إلى أزقتها وشوارعها، وتتحول المدينة إلى مشهد فني نابض بالحياة، يعكس مدى تعلق الجزائريين بهذه المناسبة الدينية العزيزة على قلوبهم.يكتسي احتفال هذا العام طابعا مميزا، لتزامنه مع موسم الصيف، ما أضفى أجواءً خاصة وحيوية غير معتادة، خصوصا في المحلات المتخصصة والأسواق الشعبية على غرار “المدينة الجديدة” و«لباستي”، حيث شهدت هذه الفضاءات التجارية نشاطا ملحوظا وحركة غير مسبوقة.
وقد أضفى هذا التلاقي بين الأجواء الروحانية وبهجة الحياة اليومية للمناسبة طعما خاصا، جعل من عاصمة الغرب الجزائري، الباهية وهران، لوحة احتفالية نابضة بالحياة، تنسج خيوط الأصالة بلمسات من الحداثة.

ســــوق المدينـــة الجديدة.. قلـب نابض للاحتفال

 في قلب المدينة القديمة، حيث تتعانق الأزقة الضيقة مع إيقاع الحياة العصرية، يتألق سوق المدينة الجديدة بحلّة مبهرة منذ بداية شهر ربيع الأول، وكأن الزمان والمكان اتفقا على رسم لوحة تنبض بالإيمان والبهجة؛ فالمحلات والطاولات تتنافس في عرض أروع الزينات والتصاميم المستوحاة من روح التراث الإسلامي، في مشهد يأسرك بجماله.
وسط هذا الزخم، تبرز فتيحة، أم لخمسة أطفال، كواحدة من الزبائن لتشاركنا جانبا من طقوسها السنوية التي تحرص من خلالها على نشر أجواء الفرح في منزلها، وتقول: “في كل عام، أحرص على إشراك أطفالي في تزيين البيت.”
وتتابع بابتسامة تغمرها السعادة: “الزينة ليست مجرد ألوان زاهية أو أشكال معلّقة وشموع مضيئة...إنها رسالة وجدانية تنبض بحب النبي ﷺ، تُغرس في قلوب الأطفال منذ سنواتهم الأولى، بأسلوب مؤثر يلامس وجدانهم ويجعلهم يعيشون روح المناسبة بكل حب ويتفاعلوا مع بُعدها الروحي والديني”.
واعتبر عبد القادر، صاحب متجر مختص بزينة المناسبات: “الإقبال هذا العام يتركز بشكل واضح على الزينة المصنوعة يدويا، لما تحمله من لمسة تراثية تعكس أصالة الاحتفال وروح المناسبة، فالحرفيون المحليون أبدعوا في تصميم فوانيس تقليدية مزخرفة، وملصقات مكتوبة بخط عربي أنيق، مما يضفي على السوق طابعا فنيا وثقافيا فريدا”.
ويشير إلى أنّ “هذه الزينة لا تُعتبر مجرد أدوات للزخرفة، بل تحمل في طياتها رمزية عميقة تعبّر عن ارتباط المجتمع المحلي بجذورهم وتقاليدهم، وعن رغبتهم في إحياء ذكرى المولد النبوي بطريقة تحاكي روح الماضي وتواكب جمال الحاضر”.
كما أنّ الإقبال على هذه المنتجات يعكس وعيا متزايدا لدى الزبائن بأهمية دعم الصناعات المحلية والحرف اليدوية، التي باتت تمثّل جزءا من الهوية الثقافية للمدينة، يضيف المتحدث ذاته.

حلويـــات تقليديــة..نكهـــة الذّكريــات

 لا يكتمل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بهذه المدينة العريقة دون حضور الأطباق التقليدية التي تستحضر ذاكرة الأجيال وتُجسد الانتماء الثقافي الأصيل، إذ تتحول الموائد إلى لوحات فنية تنبض بالنكهات، في أجواء احتفالية تمتزج فيها الروحانية بالدفء الأسري، لتُعيد إحياء لحظات من الماضي في حضن الحاضر.
في ليلة المولد، يبرز طبق “الرقاق” كأحد أبرز الأطباق المالحة التي تميز المناسبة؛ تُحضّر أوراقه الرقيقة من السميد وتُغمس في مرق غني بالدجاج والخضر، ما يمنحه طابعا خاصا، يجمع بين البساطة والعمق في المذاق، ويُقدّم كتحية للموروث الشعبي الذي لا يزال حيا في تفاصيل الحياة اليومية.
ومع إشراقة صباح جديد، تتزين مائدة الغداء في البيوت الوهرانية بطبق “البركوكس” التقليدي، حيث تمتزج حبات السميد بلحم طري وخضر موسمية، وتعطر بتوابل محلية خاصة.
هذا الطبق المعروف محليا باسم “بركوكس النفاس”، يتجاوز كونه مجرد طعام، فهو يمثل طقسا تقليديا للاحتفاء بالأم التي وضعت مولودها حديثا، ويُحضّر خصيصا خلال الأيام الأولى بعد الولادة باستخدام مزيج من التوابل الحارة المعروفة بـ “راس الحانوت”، إلى جانب “الطمينة” بهدف تعزيز إدرار الحليب وكدعاء ضمني بالصحة والبركة للأم.
وفي بعض البيوت، يُطهى هذا الطبق في المولد النبوي الشريف، تيمّنا بولادة النبي محمد ﷺ واحتفاءً بأمه آمنة بنت وهب، في رمزية تربط بين قداسة الأمومة وبركة النبوة.
على موائد القهوة والشاي، تتزين الطاولات بـ “التقنتة”، أو كما يسميها البعض “الطمينة”؛ الحلوى التقليدية التي تحضّر من السميد المحمّص، والعسل، والسمن، وتُزخرف بالقرفة والمكسرات وتجسد روح المناسبة في كل لقمة.
لكن ما يميّز هذه الأطباق ليس فقط طعمها، بل ما تحمله من قيم، إذ تتبادل العائلات الأطباق فيما بينها، وتُقدّم كهدايا للعائلات المحتاجة، في مشهد حيّ يُجسّد التكافل والتضامن الذي يميز المجتمع الوهراني.
ويحظى البعد الديني والتربوي بمكانة محورية في أجواء الاحتفالات، إذ تُقام فعاليات مخصصة للأطفال تشمل مسابقات لتلاوة وحفظ القرآن الكريم، ناهيك عن تنظيم جلسات ختان جماعية في جو احتفالي مفعم بالروح الجماعية، تضفي على الحدث طابعا مميزا، يجمع بين القدسية والفرح، ويُكرّس البُعد الديني والثقافي والاجتماعي في آن واحد.

أساليب متجدّدة تعطي روح الشّباب والانتماء

 كما أنه لابد من الإشارة إلى أن مدينة وهران، تشهد في السنوات الأخيرة تحولا ملحوظا في مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، حيث تجاوزت الطقوس التقليدية لتفسح المجال أمام مبادرات شبابية متزايدة، خاصة في الأحياء الشعبية.
ولم يعد هذا الحدث مجرد مناسبة دينية، بل أصبح تجربة متكاملة تنسج بين الأبعاد الروحية والثقافية والاجتماعية، مانحة المدينة طابعا متجددا؛ حيث يرتدي أبناء الحي الواحد من مختلف الأعمار أزيائهم التقليدية، وتتناغم الإيقاعات التراثية مع أضواء الشموع والتعابير الفنية، في مشهد جماعي يجسد روح التضامن والانتماء، ويبرز تشبث المجتمع بهويته الثقافية والدينية.
ورغم الجدل الذي يثار أحيانا حول هذه المبادرات، فإنها تعكس حرص الجيل الجديد على صون التراث الديني والثقافي، وتقديم صورة حضارية للإسلام كدين يدعو إلى المحبة والسلام، ويحتفي بالتنوع والتعايش.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19867

العدد 19867

الخميس 04 سبتمبر 2025
العدد 19866

العدد 19866

الأربعاء 03 سبتمبر 2025
العدد 19865

العدد 19865

الثلاثاء 02 سبتمبر 2025
العدد 19864

العدد 19864

الإثنين 01 سبتمبر 2025