بدأت تباشير ليلة مولد خير الخلق “محمد صلى الله عليه وسلم”، تظهر للعيان بعديد مناطق ولاية تيزي وزو، والتي يستعد سكانها للاحتفال بهذه المناسبة التي أشرق نورها على البشرية ليسجل فجرا جديدا أشاع نوره على الدنيا بأسرها، وتبدأ رحلة العيش في كنف ورحاب القرآن الكريم وسنة خاتم الأنبياء محمد صل الله عليه وسلم.
تختلف الاحتفاليات بالمولد النبوي الشريف بولاية تيزي وزو، من منطقة الى أخرى، إلا أنّها تشترك وتتسم بطعم العادات والتقاليد المتوارثة من السلف الصالح، والذي وضع اللبنات الأولى لاحتفاليات المولد النبوي الشريف “او ثمغرا ننبي” أي “عرس النبي”، كما يستحب تسميتها من سكان مختلف قرى منطقة القبائل، والذي ربطوا هذه الاحتفالية بالفرح والأخوة التي تعمق أواصر التكافل والأخلاق الحميدة التي اتصف بها الرسول الكريم، وجاهد طيلة رسالته لإرسائها في نفوس المسلمين.من أعالي جبال جرجرة ومن بين أزقة القرى ذات الطابع التقليدي، تبدأ بشائر ونسمات الاحتفاليات بمولد النبي الشريف تظهر للعيان، أين تتحوّل الوجهة إلى المساجد والزوايا التي تستقبل المصلين والزوار من مختلف ولايات الوطن، حيث يحرص القائمون على هذه الأماكن المباركة ببركة الإيمان والقرآن الكريم على استقبال الضيوف في أحسن الظروف، وذلك من خلال تحضير الولائم لهم وتنظيم حلقات للذكر تتعالى فيها أصوات الذكر الحكيم وترتفع فيها دعوات الخير للحاضرين، إلى جانب تكريم طلبة القرآن الكريم وتقديم الجوائز، تشجيعا لهم على مجهوداتهم في حفظ كتاب الله، وسيرهم على نهج السلف الصالح الذين جاهدوا طويلا من أجل الحفاظ على رسالة رسول الله “محمد صلى الله عليه وسلم”، وتوريثها عبر الأجيال من أجل إنشاء جيل صالح متمسّك بتعاليم الإسلام وسنة النبي “محمد صلى الله عليه وسلم”.
تكريم الحفظــة وحفــلات ختـان جماعــي
تعتبر مناسبة المولد النبوي الشريف فرصة لتكريم طلبة وحفظة القران الكريم، حيث تشهد المساجد والزوايا بمنطقة القبائل تنظيم حفل ديني على شرفهم، تتعالى فيه أصوات الشيوخ بالذكر الحكيم والمدائح الدينية التي تخص بالصلاة على رسول الله وذكر مسيرته النبوية، وهذا وسط أجواء روحية يسودها الخشوع، التي يكسر صمتها تلك الحناجر الذهبية التي تتعالى أصواتها بالأناشيد والمدائح الدينية ، في صورة تقشعر لها الأبدان تجعل النفس تختلي بنفسها وتنزل عليها نسمات الرحمة والطمأنينة، وهو الشعور الذي يتقاسمه كل من يقصد هذه الأماكن المقدسة قداسة هذه الذكرى التي جمعت السكان في مختلف القرى على أواصر الرحمة والتآخي فيما بينهم، وبعد هذه الوصلة من المدائح الدينية من طرف “لخوان”، يشرع الحضور في مراسيم الحنة للأطفال الذين نظّم على شرفهم حفل الختان الجماعي، حيث يتم تحضيرهم للحدث كأنهم عرسان صغار يزفون في ليلة مباركة وهي ليلة مولد خير الانام، ليستبشر بها الأولياء خيرا، متمنين أن يسير أبنائهم على سيرة النبي الكريم، وهو الهدف من تنظيم هذه الحفلات في هذه المناسبة حيث تتبارك بها العائلات وتعتبرها فأل خير على الأطفال وعلى عائلاتهم.الاحتفالات بذكرى المولد النبوي الشريف بمنطقة القبائل، تتزين بالعادات والتقاليد المتوارثة من الأسلاف والأجداد، وهي العادات التي حافظ عليها سكان مختلف القرى بتيزي وزو، والتي تعود إلى الواجهة كلما أشاع نور فجر ميلاد الرسول الكريم، حيث تعبق رائحة الدين بجمال العادات والتقاليد المتجذرة في عمق الذاكرة.
أعــلام الحج في عــرش شرفـــة بـ “تيــزي نتلاثــــة”
يعرف عرش شرفة بتيزي نتلاثة في واضية والذي يتكون من أربعة قرى “مغزل المال، آث عابد، آث حاج علي واث واعلي”، بإحياء إحدى العادات والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال، والتي ارتبط اسمها بهذه المناسبة، وهي عادة تعود للسلف الصالح أيام كان الحاج يسير مسافات طويلة سيرا على الأقدام من أجل الوصول الى مكة المكرمة وبلوغ بيت الله الحرام من أجل إتمام مراسيم الحج، هذه المسافات الطويلة التي لم تكن تثنهم عن مقصدهم بل كانت تزيدهم عزما وقوة لبلوغ ذلك المكان المقدس الذي يفوح برائحة الايمان والإسلام، والذي احتض بين طياته الجسد الطاهر للرسول الكريم الذي شاع نوره على ارجاء مكة في يوم ميلاده ليعلن بذلك ميلاد فجر جديد للبشرية، هذا المكان الذي كان حلم كل شخص تطوق نفسه للطواف ببيت الله.
هذه الرحلة التي لا تشبه أي رحلة فهي أشبه بميلاد جديد لكل زائر وحاج، والذين بعد إتمام المراسيم والعودة إلى الديار يحضرون معهم قطع من القماش من مكة المكرمة مختلفة الألوان، وبعد وصولهم الى القرية ودخول منازلهم يتم استخراج القماش وربطه بعصا خشبية على شكل علم، والذي يبقى في المنزل، ولا يستخرج إلا في ذكرى المولد النبوي الشريف، أين تقوم عائلات الحجاج من مختلف القرى الأربعة باستخراجها والسير بها بين أزقة القري على أن يطوف بها على مختلف المنازل أين تمنح لهم التبرعات من أموال والتي تحمل في منديل أحمر، على أن ترفع أيديهم لدعوات الخير من طرف لخوان أو مشايخ المساجد، وهكذا تنطلق رحلة المسير قبل المولد النبي الشريف، على أن تصل تلك الاعلام الى مقام الولي الصالح “جدي عبد الملك”، الذي يعتبر من الأوائل الذي أدخل الإسلام إلى القرية، ليكون ملتقى السكان والزوار، والذين يشدون رحالهم الى هذه المنطقة من مختلف مناطق تيزي وزو وحتى مختلف ولايات الوطن.
إلى جانب حضور المغتربين الذين يعتبرون هذه المناسبة فرصة للقاء مع مختلف أفراد العائلة وحتى أهل القرية، ليلتقي الجميع في هذا المكان ويتشاركون قصعات الكسكسي باللحم، بعد تنظيم عادة الوزيعة “ثيمشرط”، حيث يوفر هذا المكان المبيت والاكل للزوار من مختلف ولايات الوطن ليشهدوا هذا الحد الذي يذكرهم بالرحلة الشاقة لأجدادنا لبلوغ مشارف مكة المكرمة مشيا على الأقدام من أجل إتمام مراسيم الحج، وهو الأمر الذي يعزز من أواصر الأخوة والمحبة، ويذكر الجميع بسيرة رسول الله “صلى الله عليه وسلم”.
هذه العادات والتقاليد الذي يعود سنويا بعرش شرفة يمتزج بالأغاني التقليدية، ومدائح لخوان، إلى جانب فرقة “ايضبالن” التي ترافق تلك الأعلام في مسيرتها من المنازل وصولا الى مقصدها، حيث تعلّق عاليا وتترك مرفرفة في السماء العالية معلنة بزوغ فجر جديد للإسلام تزين بنور ميلاد أشرف خلق الله.
عشـــاء ليلــة المولد النّبـــوي الشّريــف
تعتبر ذكرى المولد النبوي الشريف فرصة للقاء أفراد العائلات على طاولة واحدة، أين تقوم النسوة بتحضير مختلف الأطباق التقليدية التي تشتهر بها منطقة القبائل، والتي تتمثل بطبق الكسكسي باللحم أو الدجاج، أو طبق البركوكس باللحم، ناهيك عن الحلويات التقليدية والبغرير لفطور الصباح، هذه الاطباق التقليدية التي تجتمع على مشاركتها مختلف افراد العائلات الذين يقوم بدعوة بناتهم المتزوجات من أجل مشاركتهم هذه الأجواء التي تطغى عليها مظاهر الفرح والاخوة، لتكون فرصة أيضا لتعليم الأطفال مغزى هذه الاحتفالية وتعليمهم السيرة النبوية، وذلك من أجل توريثهم هذه العادات والتقاليد التي تدعو الى التآخي والرحمة وتعزيز أواصر المحبة بينهم، لتختتم برفع الأيدي إلى السماء وتقديم دعوات الخير للجميع خاصة المغتربين والبعيدين عن منازلهم، على أمل أن يلتم شملهم ويجتمعون بهم على طاولة واحدة في ذكرى المولد النبوي الشريف للسنة المقبلة.
حنّــة المولـد النّبـوي الشّريــف
لا تخلو الاحتفاليات بمناسبة المولد النبوي الشريف من المظاهر الجمالية والزينة، حيث تقوم الجدة أو ربة البيت بتحضير طبق الحنة وذلك لوضعها على أيدي أفراد العائلة خاصة الأطفال، الذي يضفون على هذه الليلة مظاهرة الفرح والسعادة وضحكاتهم تتعالى في مختلف أرجاء المنزل وهم يحملون الشموع بين أيديهم ويرددون اغنية “فرحي فرحي يا قلبي اسا سامغرا ننبي، فرحن لملوك ايقني ارنيغ أولا ذنكيني”، أي “افرح افرح يا قلبي. اليوم عرس النبي..فرحت ملائكة السماء وفرحت انأ معهم”، في رسالة منهم لفرحتهم وغبطتهم بمولد خير الأنام وميلاد فجر جديد أضاء بشعاع نوره، وبعدها تبدأ الاحتفاليات على وقع الأغاني النسوية الشعبية والزغاريد التي تملأ الارجاء.ذكرى المولد النبوي الشريف ليس مجرد احتفالية تعود كل سنة، وإنما هي سفر في الزمن إلى عهد النور والاشراقة وميلاد فجر جديد خرجت فيه البشرية من الظلمات الى النور، لتتعلق قلوب الناس بخير الأنام ويتسلّل نوره الى قلوبهم التي أنارت وأضاءت بميلاده، وما تزال مضيئة بعد مرور قرون من الزمن، هذه الذكرى الذي تعدت حدود المعالم وفق مظاهر روحية متأصلة ومتجذرة في النفوس، وزادت من رونقها مظاهر الاحتفاليات بها والتي اختزلتها عادات وتقاليد منطقة القبائل التي أشرقت نورا مع إشراقة نور مولد النبي الشريف.