إعادة تشكيل العلاقــة بين دول القــارّة بعيــدًا عن التدخــلات الأجنبيــة
تتصدر الجزائر المشهد الدبلوماسي الإفريقي خلال الشهر الحالي بجهود مكثفة لتعزيز التعاون جنوب- جنوب، مستفيدةً من رئاستها لمجلس الأمن الدولي خلال الشهر جانفي الجاري. وتعكس هذه التحركات استراتيجية جزائرية واعية، تهدف إلى تعميق العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف داخل القارة الإفريقية، في وقت تواجه فيه إفريقيا تحديات كبرى تتراوح بين الإرهاب، الذي يُعد تهديدًا وجوديًا لعدد من دول الساحل، وبين قضايا التنمية الاقتصادية المستدامة التي لاتزال تعيق تقدم العديد من الدول الإفريقية.
من خلال الديناميكية الجديدة، تسعى الجزائر إلى لعب دور ريادي يُعيد تشكيل العلاقة بين دول القارة بعيدًا عن التدخلات الأجنبية، التي لطالما أضرت بمصالح الشعوب الإفريقية.
هذه الرؤية تجسدت عبر جولات دبلوماسية رفيعة المستوى، قام بها وزير الخارجية أحمد عطاف، الذي حمل رسائل رئاسية إلى قادة دول إفريقية، إلى جانب نشاط دبلوماسي متزايد لتعزيز الحوار مع شركاء إفريقيا حول القضايا الإقليمية والدولية.
في هذا السياق، أوضح أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور هشام بوزيدي، في تصريح لـ «الشعب»، أن التحركات الجزائرية الأخيرة تحمل دلالات واضحة على وعي الجزائر بأهمية تكريس مكانتها كفاعل رئيسي في إفريقيا. هذا الوعي ينبع من فهم متجذر لديناميات القارة وتحولاتها السياسية والاقتصادية، ويدل على محاولة حثيثة لجعل إفريقيا شريكًا قويًّا في النظام الدولي الجديد.
وتأتي زيارات أحمد عطاف إلى أنغولا وأوغندا وبوروندي، كجزء من رؤية أوسع تهدف إلى معالجة القضايا الجوهرية في القارة.
ففي أنغولا، تركزت النقاشات على التحضير لرئاسة أنغولا الدورية للاتحاد الإفريقي، مع التزام الجزائر بدعم القيادة الأنغولية في مواجهة التحديات القارية.
أما في أوغندا، فقد حملت الزيارة طابعًا تنفيذيًا، إذ جرى استعراض التقدم المحرز في تنفيذ قرارات استراتيجية اتخذها قائدا البلدين خلال زيارة الرئيس الأوغندي للجزائر في مارس 2023.
وفي بوروندي، كانت الرسالة واضحة «الجزائر مستعدة لدعم التنمية وتحقيق شراكة استراتيجية تُسهم في نقل البلدين إلى مصاف الدول الناشئة».
أبعـاد التعــاون
علاوة على ذلك، لا يمكن قراءة التحركات الدبلوماسية الجزائرية بمعزل عن السياقات السياسية والأمنية التي تواجهها أفريقيا. فالإرهاب الذي يعصف بدول الساحل، بما في ذلك بوركينا فاسو ومالي والنيجر، يشكل تحديًّا يستدعي تنسيقًا على أعلى المستويات.
ووفقًا للدكتور بوزيدي، فإن الجزائر تسعى لتكريس نهج جديد في مكافحة الإرهاب، يركز على الحلول الداخلية دون تدخلات أجنبية عسكرية، وهو موقف يتماشى مع ردود الفعل الإفريقية الحادة على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن شكر إفريقيا لفرنسا، وهو ما قوبل برفض ضمني من قبل العديد من القادة الأفارقة.
علاوة على ذلك، يوضح أستاذ الدراسات الأمنية الدكتور محمد علي أولحاج، في تصريح لـ «الشعب»، أن الجزائر تعي بوضوح تعقيدات المشهد العالمي وتأثيره على إفريقيا، في ظل التحولات الجارية، من تغيير القيادة في الولايات المتحدة، إلى تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية.
وترى الجزائر، أن القارة الإفريقية يجب أن تكون أكثر استقلالية في اتخاذ قراراتها. ولهذا، فإن التحركات الجزائرية الأخيرة تعكس إصرارًا على بناء منظومة تعاون إقليمي متينة تُعزز الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، مع التركيز على منطقة غرب إفريقيا، التي تشهد العديد من التحولات السياسية والأمنية.
مقاربة تنموية شاملة
بالإضافة إلى ذلك، شكلت التنمية الاقتصادية المستدامة محورًا أساسيًا في الجولة الدبلوماسية الجزائرية وذلك من خلال تعزيز العلاقات الثنائية مع دول إفريقية، مثل أنغولا، حيث تسعى الجزائر إلى استثمار إمكاناتها الاقتصادية في مجالات الطاقة والبنية التحتية، حيث أكد عطاف في تصريحاته على أهمية بناء شراكات متبادلة، تسهم في تحقيق نهضة تنموية حقيقية، بعيدًا عن الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية.
كما تدرك الجزائر، بحسب الدكتور أولحاج، أن التنمية هي السبيل الوحيد للقضاء على الإرهاب والتطرف، إذ أن الفقر وضعف البنى التحتية يمثلان بيئة خصبة لهذه الظواهر. ومن هنا، فإن استثمارات الجزائر في تعزيز التنمية داخل القارة، تأتي كجزء من مقاربة شاملة لا تنفصل عن أهدافها الأمنية والسياسية.
وفي الوقت الذي تواجه فيه القارة الإفريقية ضغوطًا دولية وإقليمية متزايدة، تبرز الجزائر كصوت إفريقي قوي يدافع عن مصالح القارة في المحافل الدولية. وأظهرت الجزائر خلال رئاستها لمجلس الأمن، التزامها بتسليط الضوء على قضايا القارة، بما في ذلك مكافحة الإرهاب وتصفية الاستعمار في الصحراء الغربية، وهو ملف تؤكد الجزائر أنه جزء لا يتجزأ من حقوق الشعوب الإفريقية في تقرير مصيرها.
إضافة إلى ذلك، فإن النشاط الدبلوماسي المتزايد مع دول مثل بوروندي وبوركينا فاسو، يعكس حرص الجزائر على بناء شراكات قوية داخل القارة، مع التركيز على الحلول الأفريقية للقضايا الأفريقية. ويعكس هذا النهج رؤية الجزائر لخلق فضاء سياسي واقتصادي أفريقي مستقل وقادر على مواجهة التحديات العالمية.