الزائر لمختلف قرى ومداشر منطقة تيزي وزو خلال هذه الأيام، يقف على مظاهر وصور الاستعدادات لإحياء رأس السنة الامازيغية “يناير” او ثابورث اوسقاس”، هذه الاحتفالية التي يتنافس فيها سكان القرى المختلفة في اظهار عادات وتقاليد المنطقة، التي توارثتها أبا عن جد لدرجة انها تحولت مع مرور الأزمنة الى موروث ثقافي فني، تاريخي واجتماعي، ربط بين الماضي والحاضر والذي تجسدت فيه هوية ورمزية منطقة جرجرة التي تنفرد بعادات وتقاليد تظهر للعيان خلال الاحتفال براس السنة الامازيغية، هذه الاحتفالية التي يشترك فيها كل الجزائريون مع اختلاف العادات والتقاليد ولكن اصل الاحتفالية نفسه.
عادات وتقاليد عادت الى الواجهة في مختلف القرى والمداشر بتيزي وزو، بمناسبة احياء رأس السنة الامازيغية “يناير” وهذا بعد ان كانت مغيبة عن صور الاحتفال لعديد السنوات، وهذا ما أعاد النكهة الحقيقية لاحتفالات يناير في منطقة القبائل، لدرجة يخيل لك انك في زمن القرى القديمة والبيوت العتيقة التي كانت رائحة الدخان المنبعث من موقد “الكانون” الشاهد على أيام الزمن الجميل، وعبق التاريخ الذي اختزل في طياته نمط معيشة خاصة بسكان منطقة القبائل، والذين لا يفوتون أية فرصة لإعادة ملامح الحياة التقليدية التي تعتبر اليوم موروثا تتميز به المنطقة دون غيرها من المناطق الأخرى من الوطن.
إعادة ترميم البيوت القديمة من أجل الاحتفال بيناير
شهدت العديد من القرى والمداشر في منطقة جرجرة، إعادة ترميم البيوت القديمة والتقليدية، وهذا من أجل إعطاء الصورة الحقيقية لهذه الاحتفالية المرتبطة بحياة الأجداد الذي كانوا يربطون “يناير” بالأرض والفلاحة، ويعتبرونه فأل خير على المنطقة، حيث لا يستثنى فيها أي أحد، وحتى الحيوانات والأشجار، حيث يحصلون على حصصهم من الطعام والخير الوفير الذي تجود به الأرض، وهذا ليعم الخير والوفرة والبركة في السنة.
هذه الطقوس التي يقوم بها سكان المنطقة تنتقل من الحقول الى داخل المنازل، وبالرغم من رياح العصرنة التي عصفت بالمجتمع إلا ان الاحتفالية لم تغب يوما عن منطقة القبائل، مع انها فقدت الكثير من نكهة الأجداد فقد اقتصرت الاحتفالية فقط على عشاء “يناير” وبعدها يمكث كل واحد داخل منزله دون أية مظاهر احتفالية تجمع بين السكان.
إلا أنه خلال هذه السنوات الأخيرة ومع عودة النشاطات الثقافية وانتشار الجمعيات الثقافية، عاد رونق وجمالية الاحتفالية بنكهة الجدات والامهات، حيث سارعت النسوة في القرى باسترجاع كل ما هو موروث ثقافي من الفخار، الى ترميم البيوت العتيقة ووضع ديكور يتماشى مع مظاهر الحياة في القرى القديمة، والتي يتم الاستعانة بها بعدها في تنظيم مختلف التظاهرات الاحتفالية والثقافية على مستواها ومنها الاحتفال بـ “يناير”، حيث تتحول الى متاحف ومقصد الزوار وحتى سكان القرية من اجل معايشة التاريخ في عز العصرنة والتطور، هذه المنازل التي تربطهم بكل ما هو تراث وموروث يختزل الهوية والذاكرة الشعبية المشتركة لبلادنا.
احتفاليات جماعية تعزّز الموروث الثقافي
تبدأ تحضيرات النسوة لإحياء “يناير” في عديد قرى ومداشر تيزي وزو من خلال المرور بكل منازل القرية، وجمع المستلزمات التي تستخدم في طهي عشاء يناير، وهذا ما يطلق عليه عادة “بوعفيف”، حيث تشترك العائلات في طهي طبق الكسكسي المشهور مع سبعة أنواع من البقول الجافة وهي الفاصولياء، العدس، الحمص، الشعير، الفول، القمح والأرز، والذي يجتمع عليه أطفال ورجال وحتى النساء في ساحة القرية لإعطاء الطابع الاحتفالي لهذه المناسبة، على ان تحضر كل عائلة عشاءها الخاص في منزلها، حيث لا تبقى القدور والأواني فارغة في هذه المناسبة بالرغم من اشتراكهم في طهي هذا الطبق في القرية، ليكون العام وفير ومليء بالخيرات ولا تبقى المنازل خالية بحسب ما أكدته لنا النا سعدية من قرية “احسناون” في بلدية مسطراش.
ان عشاء يناير له من الدلالات الرمزية التي تجعل الزائر للقرى يندهش من عمق العادات والتقاليد المتوارثة، حيث لا يعتبر مجرد عشاء فقط وانما فأل لكل ما هو خير، كما انه يرمز الى التكافل، المحبة والاخوة، حيث تعمد الأمهات والجدات الى وضع الملاعق والصحون على بحسب افراد العائلة وحتى الغائبون عن المنزل وهذا كدلالة لعودتهم الى المنزل خاصة المغتربون في ديار الغربة، كما ان الدجاج المطهو في عشاء يناير لا يتم توزيعه إلا من طرف كبير العائلة سواء الجد أو الجدة، حيث يتم تقسيمه بحساب دقيق على ان يمنح رأس الدجاج لكبير العائلة لأنه المدبر، أما أجنحة الدجاج فتقدم للفتيات العازبات لأنهن سيتزوجن يوما ويغادرن المنزل، في حين تقدم الصدور الى الفتية الشباب لأنهم هم من يواجهون الصعوبات في الحياة ويدافعون عن أفراد المنزل في حالة الخطر، هذه العادة ما تزال العديد من العائلات تقوم بها الى يومنا في حين تخلت عنها بعض المناطق.
طبق الكسكس ليس الطبق الوحيد الذي يزين الطاولات وإنما تتفنن النوسة في تحضير مختلف الاطباق التقليدية من “البركوكس، البغرير، الخبز المختلط بمختلف الأعشاب العطرية، الى جانب بعض العصيدات من الأعشاب الطبية”، هذه الاطباق توارثتها الفتيات عن الأمهات والجدات، وعادت الى الواجهة خلال السنوات الأخيرة حيث نجدها في كل المنازل، كما انهن يقمن بطبخ السفنج داخل الزيت وهي عادة ترتبط ارتباطا وثيقا بالرياح حيث تعمل الزيت على تخفيف شدة الرياح بحسب ما صرحّت به النسوة في عديد القرى.
تحضير جهاز العروس في يناير
يعتبر يناير احتفالية تحمل في طياتها الفرح والبهجة، حيث تعمد فيه العائلات الى إتمام بعض مراسيم الخطبة في هذا الشهر، استعداد لحفل الزفاف الذي يبرمج بعد أشهر قليلة من يناير، حيث تقوم عائلة الزوج باقتناء بعض المستلزمات للعروس وتقوم بالذهاب لبيت العروس وتقدمها لها على أساس انهم يتملكونها وهو ما يسمى في منطقة القبائل “لملاك” حيث لأي جوز لأهل الفتاة التراجع عن الزواج بعدها، لأنهم تملكوا الفتاة وأصبحت أحد افراد عائلتهم في انتظار استكمال المراسيم بحفل الزفاف.
اقتناء الملابس الجديدة وحلق شعر الطفل عادة راسخة بمنطقة القبائل
أيام قليلة قبل بداية الاحتفالات بيناير تقصد العائلات مختلف الأسواق من اجل اقتناء كل المستلزمات المستعملة في هذه الاحتفالية، فبعد الانتهاء من اقتناء مستلزمات عشاء يناير، تقوم باقتناء الملابس الجديدة للأطفال خاصة الطفل الذي بلغ من العمر سنة، والذي يكون عريس السهرة حيث يتم تحضير قصعة من الفخار واحضار مختلف الحلويات، المكسرات وبعض الازهار من الحقول، حيث يتم اجلاسه فيها مع رمي الحلويات فوق رأسه وبعدها يتم قص جزء صغير من شعره الامامي وسط جو بهيج من الفرحة والبهجة بحضور الأقارب وافراد العائلة، كما يتم منحه احدى أشجار الزيتون وتسميتها باسمه فلا يتم قطعها ولا اخذها منه حتى لو بيعت الأرض.
جلسة الحنة تضفي الطابع الجمالي على “يناير”
لا تخلو الاحتفالات براس السنة الامازيغية من المظاهر الجمالية، حيث تقوم الجدة بتحضير طبق الحنة بعد الانتهاء من العشاء، وهذا لتحني ايدي الأطفال الصغار بعد ان يتم الباسهم أجمل الملابس، وهذا ليكون العام حنين عليهم، كما تمر على جميع افراد العائلة من اجل ان تضع الحنة في أيديهم، وهذا شأن كل الاواني والحيوانات وحتى عتبات المنازل، كفأل خير على السعادة والفرح والبهجة التي سترافقهم على مدار السنة.
شجرة الدفلى لإبعاد النحس والمرض
تقوم النسوة في منطقة جرجرة بإحياء احدى الطقوس المرتبطة باحتفاليات يناير، وهي احضار نبتة الدفلة الى المنزل حيث تقوم في صبيحة يناير بالمرور على كل الحقول حاملة بيدها نبتة الدفلة” ايليلي” على ان تقوم بضرب كل ما قامت بغرسه، ثم تعود الى المنزل وتقوم بتوجيه ضربات خفيفة على كل افراد العائلة والحيوانات، وحتى الاواني المنزلية وهي تردد عبارة “اهرب اهرب يا مارس... قبل ان يمسك بك الخماس” وهذا لإبعاد المرض الذي يصيب الأشخاص وحتى الحيوانات والنباتات الى جانب ابعاد الحسد والنحس من المنزل، وبعدها تقوم بتعليق تلك النبتة على عتبة المنزل، وفي حالة مرض احد افراد العائلة تأخذ بعض الأوراق منها ويقوم بالتبخير بها من أجل الشفاء من المرض، هذه العادة ما تزال راسخة في الاذهان الى يومنا هذا.
الفرق النسوية تتفنّن في غناء أجمل الطبوع الفنية الشعبية
لا تخلو السهرات في ليلة يناير من القعدات النسوية، التي زادت من رونق وجمال هذه الاحتفالية، حيث تصدح حناجر النسوة بترديد اجمل النوتات والوصلات الغنائية الشعبية، فبين “اشويق، اورار نلخلاث، ايزلان”، يكسر الصمت والهدوء الذي كان يسود القرى وليالي البرد القارس، تاركا المجال للحن الجميل بأن يسافر الى عتبات المنازل وجدران القرية تحت تصفيقات الحضور والزغاريد التي تصل عنان السماء، مشكلة اجمل الصور الفنية التي يتفاعل معها السكان وحتى الزوار، ليكون يناير تظاهرة ثقافية وفنية بامتياز زاوجت بين الماضي والحاضر وجسدت فعليا عادات وتقاليد الأجداد التي تأبى الاندثار.
يناير بين الماضي والحاضر اختزل العديد من المعاني بين الاساطير والحقيقة، إلا انها احتفالية جسدت مختلف العادات والتقاليد المتوارثة عن الأجداد، لتمنح شهادة ميلاد لموروث ثقافي، اجتماعي وتاريخي وفني اشترك فيه كل الجزائريون، الذي يشدون رحالهم الى مختلف الولايات لتقاسم هذه الأجواء الرائعة من الاحتفاليات، التي اصطبغت برائحة الأجداد لتعود فيها العادات والتقاليد الى كنف هذه القرى والمداشر التي تحولت الى وجهات سياحية يقصدها الزوار والمتشوقون لاكتشاف أجمل ما خبأته القرى بين أزقتها وأحضان منازلها القديمة.