تزامنا مع ذكرى أحداث مجازر الثامن ماي 1945، قدّم الدكتور أحسن ثليلاني ندوة افتراضية عبر منتدى المسرح الوطني الجزائري بعنوان «أحداث 8 ماي بعيون كاتب ياسين» التي جاءت في كتابه المسرح الجزائري والثورة الجزائرية، استشهد من خلالها بأعمال روائية ومسرحية عانقت عيون هذا الكاتب الجزائري الكبير، مركزا فيها على مشاهد صورت تلك الأمواج البشرية التي تحدت المستعمر، إلى جانب لحظات الاستشهاد الخالدة التي ستظل عربون حرية الجزائر المستقلة.
تحدّث الدكتور حسين ثليلاني في ندوته عن مجموعة من المراجع التاريخية التي تناولت مجازر 8 ماي 1945، ثم تطرق الدكتور إلى حيثيات أهم أعمال كاتب ياسين طوق من خلالها لحظات المجزرة الجماعية التي لم تعرف الإنسانية أبشع منها.
وبالمناسبة كشف المتحدث علاقة مسرحية الجثة المطوقة بأحداث واقعية عاشها شعب أعزل، لم يرضخ للعدو وعزم على أن تحيا الجزائر، وجاء في سياق حديثه أيضا: تراهن مسرحية «الجثة المطوقة» لكاتب ياسين الصادرة في شهر ديسمبر 1954 وجانفي 1955 على شكل تجريبي في فضاء الكتابة المسرحية، وعلى طغيان الرمزية في عرض الشخصية داخل الموقف الذي تواجهه، ولذلك فإن عرض هذه المسرحية وتحليلها يفرض على الباحث العودة إلى عوالم الإبداع وهواجسه عنـد كاتب ياسين ليستكنه رمزية الشخصيات وما توحي به من مدلولات، فالشخصيات المفتاحية في هذه المسرحيـة مثل (نجمة) و(الأخضر) و(مارغريت) و(طاهر) نجدها - أيضا - بذات الأبعاد والمحمولات في رواية (نجمة).
الهاجس المركزي عند كاتب ياسين قال عنه المتحدث هو واحد أي هو صراع الجزائر ضد الاستعمار، فكانت الجثة المطوقة تمجيدا ملحميا رامزا للثورة، وإيحاء قويا على مقاومة الاستعمار من خلال بنائها الرامز للثورة، لأن الثورة هي الحل الجذري والحقيقي لكل أشكال الظلم والقهر الاستعمـاري، فالمسرحية تستحضر مجازر 08 ماي 1945 التي عاشها كاتب ياسين وشارك في مظاهراتها بسطيف، بل وسجن وعذّب خلالها وهو لم يزل بعد طفلا.
وبمزيد من التشويق والإثارة، استدل الدكتور في عرضه للندوة ببعض المقتطفات التي دونها كاتب ياسين في مسرحية (الجثة المطوقة)، وفقا في ذات الصدد: تنطلق مسرحية (الجثة المطوقة) بمشهد ظهور كومة من جثث الشهداء تغطي واجهة الجدار، ويصل بعض الجرحى ليموتوا في الشارع أمام أعين الباعة، ومن بين الجثث يصدر أنين خافت لا يلبث أن يصبح صوتا متميزا هو صـوت (الأخضر) الشاب الجريح، فيروي المجزرة في مونولوج مطول بأسلوب شعري جد مؤثر.
وعن لحظات الشهادة التي صورتها المسرحية وحاكت من خلالها المجزرة الشنعاء التي اقترفها المستعمر الفرنسي، أضاف المتحدث في ذات الصدد: المسرحية في افتتاحيتها تصدم المتلقي بلحظة المذبحة الرهيبة التي اقترفها جنود الاحتلال، فتعرض لحالة من حالات وجود (الأخضر) انطلاقا من كونه صوت الشهداء في هذا المدى المفتوح على القتل والدماء بشارع الوندال، فالمشهد يوحي بجرائم الاستعمار خلال مجازر 08 ماي 1945، ويدل على توحد الأخضر بالأرض توحدا كليا، فعندما يموت الشهيد يزداد حياة ويولد من جديد، إنه في هذا الموقف يمثل التضحيات التي بذلت، وصوت الدماء التي سالت، والأفكار التحررية التي افتدى الشهداء أرواحهم بها على مذبح الحرية، فصوت الأخضر في دلالاته هو صوت الثورة.
وأكّد الدكتور أنّ الكاتب خصص لوحة تعبيرية لفجيعة رفاق (الأخضر) وخاصة حبيبته (نجمة)، حيث تظهر ممزقة الثياب يلفها حزن شديد على فراق (الأخضر)، فتبكي وتولول باحثة عنه بين الجثث في صورة تخلد ألم المرأة على افتقاد الأحبة.
استوقف الدكتور من خلال عرضه عند شخصية لخضر المميزة التي كانت من بين شخصيات المسرحية ،فقال في ذات السياق: لقد تحدث (الأخضر) عن مأساته بعد مقتل أبيه مع بغي فرنسية في حادث سيارة، ثم زواج أمه (زهرة) من عميل الاستعمار (طاهر) وتحدث عن رفاقه في الكفاح وعن شغفه الكبير بحبيبته (نجمة) فاستعاد تاريخه، قبل أن يستعيذ تاريخ قبيلته مفتخرا بأجداده النوميديين شاعرا بواجبه في النضال والثورة على المحتلين، فزادته المجزرة التي أصيب فيها قوة وحماسا، ما جعل (نجمة) تعدو نحوه وتمسك به وتساعده على الاستناد إلى عربة البائع والذي كان يغط في نوم عميق، وفي حضور (نجمة) تعمقت المشاعر الوطنية والتحريرية في الأخضر، فكشف عن مأساة الوطن تحت نير الاستعمار المتعاقب، إنه يستحضر وجود المحتلين واغتصابهم لأرض الجزائر وشعبها، فيحيلنا إلى الفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين والأتراك وأخيرا الفرنسيين.
وحول الوصف الذي قدمه الأخضر لحبيبته نجمة، قال الدكتور عنه في هذا الصدد: يستحضر صورة مظاهرات 08 ماي 1945 والمجازر الجماعية والمذابح الرهيبة التي اقترفها جنود الاحتلال في حق الشعب الجزائري. لقد بذل «الأخضر» كل طاقته بإخلاص في تلك المواجهة، حتى سقط جريحا وسط الشهداء مضرجا بالدماء.
واضاف أيضا لقد راهنت مسرحية (الجثة المطوقة)، منذ بدايتها على علاقة الحب بين (الأخضر) رمز الثورة و(نجمة) رمز الوطن في إدارة الصراع ضد المستعمر، ولكن في ختام مشاهدها تراهن على الوجود الحي للطفل (علي) الذي من صلب والديه يمثل وطنا في حالة ثورة مستمرة. إنه يعتلي الشجرة ويرفض النزول منها متشبثا بمقلاعه ومدية والده.
ختم الدكتور حسين ثليلاني هذه الوقفة التاريخية بهذا العمل المسرحي، الذي سيظل شاهدا على أهم فترات احتضنتها الذاكرة الوطنية، وكما جاء على لسانه: إنها الصيحة والنداء الذي يختم به الكاتب مسرحيته، مؤكدا على أن سبيل الخلاص من الاستعمار إنما يكمن في الثورة فمضمون المسرحية، كما تقول سعاد محمد خضر في كتابها الأدب الجزائري المعاصر ص 193. يلخص مأساة الجزائر بجميع أبعادها هكذا: كفاح وذود عن حياض الوطن وكرامته - تشرد ونفي واستشهاد، ومقاومة ضارية عنيدة تواصل بها الجزائر كفاحها ضد المستعمر المستغل.