نشرهــا إيتماتـوف أول مرة عـام 1966

وداعًا غولساري..ملحمة الانسان والتاريخ

الهادي شابتي

تُعد رواية “وداعًا غولساري” للكاتب القرغيزي العالمي تشينغيز أيتماتوف، عملًا أدبيًا عميقًا يتجاوز مجرد سرد قصة خيل ورجل، ليغوص في أعماق النفس البشرية وصراعها مع الواقع المتغير. صدرت الرواية أول مرة في عام 1966، لتعكس جوهر الواقع الإنساني في زمن طمس الثقافات. تتميز الرواية بأسلوبها السردي الفريد الذي يمزج بين الواقعية الاشتراكية، والعناصر الأسطورية، والانغماس في التراث القرغيزي، مقدمةً بذلك تحليلًا نقديًا للتحولات الاجتماعية والسياسية في الاتحاد السوفيتي، وتأثيرها على حياة الأفراد.

 تتابع الرواية حياة تاناباي، راعي الخيل العجوز، وتغوص في علاقته المعقدة مع حصانه الأثير “غولساري”. تبدأ الأحداث في ليلة ماطرة وعاصفة، حيث يجد تاناباي نفسه مرغمًا على نقل غولساري العجوز والمريض إلى المذبح، وهو قرار يمزق روحه. خلال هذه الرحلة الأخيرة، يستعيد تاناباي ذكرياته مع غولساري، متتبعًا مسار حياتهما المشترك من بداية شباب الحصان وجموحه، وصولًا إلى شيخوختهما.
يستعرض السرد حياة تاناباي كشاب متحمس ومخلص للمثل الشيوعية، حيث يشارك بفاعلية في بناء النظام الجديد بعد الثورة البلشفية. يُبرز أيتماتوف كيف كانت هذه الأفكار تمثل له أملًا في مستقبل أفضل لشعبه. يتبنى تاناباي التوجيهات الحزبية، ويحاول تطبيقها في قريته، لكنه يصطدم بالعديد من التناقضات والانتهاكات التي يرتكبها بعض المسؤولين باسم الحزب.
على الجانب الآخر، تُروى قصة غولساري من منظور تاناباي كرفيق درب لا ينفصل. يصف أيتماتوف غولساري بحيويته وجماله، وكيف كان يمثل فخر تاناباي وقوته. فـ “غولساري” ليس مجرد حيوان، بل هو رمز للحرية، للروح الأصيلة لسهوب قرغيزيا، وللمقاومة الفطرية ضد القيود المفروضة.
يتعرّض غولساري بدوره للعديد من المحن، بما في ذلك إخصاؤه من قبل المسؤولين، وهي حادثة ترمز إلى قمع الحرية والجموح الطبيعي باسم “التقدم” و«المصلحة الجماعية”.
تتداخل ذكريات تاناباي مع الأحداث الجارية، وتكشف عن خيبة أمله المتزايدة في النظام الذي آمن به. يرى كيف أن البيروقراطية والفساد قد تسربا إلى كل مفاصل الحياة، وكيف أن النبل الثوري قد تحول إلى قمع واستغلال. تنتهي الرواية بوفاة غولساري، وتبقى رحلة تاناباي الليلية معه رمزًا لرحلة وداع ليس فقط لرفيق العمر، بل لجيل كامل من الآمال والطموحات التي تلاشت أمام قسوة الواقع.

في الميـــزان..

 تعتبر “وداعًا غولساري” تحفة أدبية تُجسد ببراعة التعقيدات الاجتماعية والسياسية في فترة الاتحاد السوفيتي، مع الحفاظ على البعد الإنساني العميق. يمكن تحليل الرواية من عدة جوانب، فهي تزخر بالرمزية، حيث لا يُعد غولساري مجرد حصان، بل يمثل رمزًا متعدد الأوجه، ويمكن أن يمثل روح الشعب القرغيزي: فهو يجسد الأصالة، الحرية، والقوة الكامنة في الشعب القرغيزي، وتاريخه المرتبط بالخيل والسهوب، أما إخصاؤه فيرمز إلى محاولات قمع هذه الروح وتركيعها تحت وطأة الأيديولوجيات الجامدة، ومع شيخوخته ومرضه، يرمز غولساري إلى الآمال والطموحات الثورية التي شاخت وذبلت بفعل التجاوزات والانحرافات عن المسار الأصلي.

نقد اجتماعــي وسيـاسي

 تُعد رواية “وداعا غولساري” نقدًا لاذعًا للواقعية الاشتراكية وتطبيقاتها في آسيا الوسطى. على الرغم من أن أيتماتوف لم يهاجم الاشتراكية بشكل مباشر، إلا أنه كشف ببراعة عن تناقضاتها الداخلية وفساد بعض رموزها، فهو يوضّح كيف تنحرف الأهداف النبيلة للثورة، وكيف تصبح البيروقراطية والقمع جزءًا لا يتجزأ من النظام. ويظهر ذلك بوضوح في حادثة إخصاء غولساري، وهي استعارة قوية للقمع المنهجي للحرية الفردية تحت مسميات “التقدم الجماعي”.

الحنـــين والتذكــر

 تُبنى الرواية على فكرة الحنين والتذكر، حيث تُسرد الأحداث بشكل غير خطي، تتداخل فيه ذكريات تاناباي مع الحاضر. هذه التقنية السردية تُعطي الرواية عمقًا نفسيًا، وتُمكن أيتماتوف من استكشاف تعقيدات الذاكرة البشرية وتأثير الماضي على الحاضر. رحلة تاناباي وغولساري الأخيرة هي رحلة عبر الذاكرة، حيث تُستعاد اللحظات الحلوة والمرة، ويُعاد تقييم المسيرة الكاملة.

اللّغـة والأسلـوب

 يتميز أسلوب أيتماتوف بالجمال الشعري والبساطة في آن واحد. يمتلك الكاتب قدرة فريدة على رسم الصور الحية للسهوب القرغيزية، وتصوير مشاعر الشخصيات بصدق وعمق. يستخدم أيتماتوف لغة غنية بالاستعارات والتشبيهات التي تُضفي على النص بعدًا أسطوريًا. على الرغم من الترجمة، تظل قوة السرد واضحة، وتأثير الكاتب في نقل المشاعر والأفكار بارزًا.

ختامــــــــــــــا

تُعتبر “وداعًا غولساري” رواية خالدة لا تزال تحتفظ بقوتها وتأثيرها حتى اليوم. إنها ليست مجرد قصة عن حصان ورجل، بل هي مرآة تعكس صراع الإنسان مع التغيرات الاجتماعية والسياسية، وفقدان البراءة، وقوة الذاكرة والحنين. من خلال شخصية تاناباي وغولساري، يطرح أيتماتوف أسئلة جوهرية حول معنى الحرية، العدالة، والتضحية، ويترك للقارئ مساحة للتأمل في العلاقة المعقدة بين الإنسان والطبيعة والتاريخ. إنها دعوة للتفكير النقدي في وعود الأيديولوجيات وتأثيرها على الحياة البشرية، مع التأكيد على أهمية الحفاظ على الروح الأصيلة للإنسان والطبيعة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19792

العدد 19792

الإثنين 09 جوان 2025
العدد 19791

العدد 19791

الخميس 05 جوان 2025
العدد 19790

العدد 19790

الأربعاء 04 جوان 2025
العدد 19789

العدد 19789

الثلاثاء 03 جوان 2025