من “المنصـورة” إلى “المشـور”.. مواقـع أثرية وسياحية مذهلة..

تلمسـان.. حكمة سيـدي بومديــن وسموّ لالّـة ستـــّي

تلمسان: رابح سلطاني

تعدّ ولاية تلمسان الواقعة في الغرب الجزائري، واحدة من أبرز الولايات الجزائرية، التي ما تزال المدن بها محافظة على عمرانها الحضاري والثقافي المتوارث جيل بعد جيل.. مدن عتيقة وبناياتِ تأخذنا بعمرانها الزياني المزين بزخارف الزليج الجزائري الأصلي، لاستكشاف ذلك التناغم المتأصل بين خيوط الماضي وأوتار الحاضر، في لوحة فنية بديعة تأسر كل من زار هذه الولاية الساحرة من أرض الجزائر..

مشاهد حرفييها وصنّاعها التقليديين وسط أسواقها الشعبية وحاراتها العتيقة، وهم يبدعون في انتاج التحف المرتبطة بصناعة النحاس والفخار، إلى حياكة الأزياء التقليدية ونسيج الزرابي تسافر بنا عبر الحقب والعصور، في مشهد يعكس هوّية عروس الغرب الجزائري وأصالة الزيانيين.
وفضلا عن ثراء منطقة تلمسان بالتراث الثقافي المادي وغير المادي، تزخر عاصمة الزيانيين بمواقع سياحية وأثرية مترامية على مواقع متعدّدة من تلمسان، تتجلى فيها فخامة العمران الزياني مع جمال الطبيعة، يقصدها السياح من كل حدب وصوب، استكشافا لمعالمها مثل “منارة المنصورة الشاهقة” و«مغارة بني عاد” و«قلعة المشور”، وغيرها من الشواهد الأثرية والمعالم السياحية كالحمامات المعدنية والشواطئ الذهبية، في لوحة جميلة يتمازج فيها عبق التاريخ بسحر الطبيعة، التي تحمل في كل زاوية منها ألف حكاية، ما يجعل من عاصمة الزيانيين صرحا حضاريا كبيرا ومحجا للسياح يأسر قلوب كل من دخل إليها.

القصـور .. روح الحضـارة

بمجرد تخطّيك عتبة منطقة “الرمشي” باتجاه مدينة تلمسان (والتي زرناها في جولة سياحية)، يتبادر إليك إحساس غريب يتعاظم بمشاهدة تلك القصور والمباني القديمة، وقد اتخذت من قطع الزليج الجزائري الأصلي زينةً لها، في أشكال وأقواس مصنوعة من الصخر والطين والجبس، في حلّة تزيّن مداخل الأبواب الرئيسة ومآذن مساجدها العتيقة، نمط معماري يسافر بك إلى أيام الفترة الزيانية، ويجعلك تستحضر كتابات من زارها من علماء ومؤرخين، ممن سادت أسماؤهم في الشرق والغرب، واتخذوا من المدينة مكانا للتعبّد ونشر العلم، كابن خلدون، وابن أبي حجلة التلمساني، والإمام الجليل الشيخ السنوسي، وسيدي بومدين الغوثي، وغيرهم ممن كانت لهم بصمة في العلم والفن والثقافة، وكانت تلمسان قبلة لهم وموطأ في تعلّم الفن والعلم ونشر في حواضر الغرب وشرقها.

شاهـد علــى عبقريـة الزيانيــين

خلال تجوالك بقلب المدينة القديمة تلمسان، تصادفك أسوار صخرية عالية، في شكل قلعة حصينة تسمى قلعة “المشور”، لا تزال قائمة وشاهدا على ذلك الإبداع المعماري والهندسي العريق، الذي عرفت به المدينة أيام حكم سلاطين الزيانيين، قبل ثلاثة عشر قرنا من الزمن، فوفقا لما أدلت به المرشدة السياحية المعتمدة في هذا الصرح والمعلم التاريخي الثقافي في حديث لـ«الشعب”، يعود تأسيسه إلى السلطان الزيان الأول “يغمراسن بن زيان” الذي بناه خلال الفترة الممتدة من 1234 و1235، وقد اتخذ من القلعة أو الحصن مقرا للحكم وإدارة شؤون الحكم والمشاورة، ليظل على ذلك للأكثر من 3 قرون من الزمن، ومنها اشتق اسمها “المشور” التي تربط في معناها بالشورة والحكم أيام السلاطين الزيانيين.
ويعدّ القصر بحق تحفة معمارية وهندسية، لما يتضمنه من إبداع في البناء ودقة في التشييد يتناغم فيها نمط البناء مع طبيعة المناخ خلال فصلي الشتاء والصيف.. الغرف الداخلية لقصر “المشور” وأبنيته مزينة بزخارف الزليج في شكل نقوش نباتية، لتنتهي بك أروقة القصر إلى غرفة واسعة بها تماثيل تحاكي مجالس السلاطين الزيانيين، في مشهد يأخذنا إلى حقبة تاريخية هامة من تاريخ الجزائر الغنّي، نستحضر من خلالها مجالس الحكم أيام السلاطين الزيانيين، ونمط عيشهم أيام الحرب والسلام، وتنقلنا إليها تلك الكتابات والنقوش الموجودة على جدران الغرف وفي أجنحة القصر وأعمدته الرخامية المصممة وفقا لتعاقب فصول السنة، منها جناح بناه السلطان الزياني الأول بالرخام لمسايرة درجة الحرارة خلال  فصل الصيف، في حين اتخذ من الجناح الشتوي المشيّد بالصخور الحجرية مكانا للإقامة خلال فصل الشتاء في نمط معماري يجسد عبقرية الفن المعماري الجزائري أيام الفترة الزيانية.

أناقـــــة الفـــــنّ..

الكتابات والنقوش الخطية التي تزين جدران معظم القصر، هي كتابات تحمل شعار الدولة الزيانية منها “العز القائم والملك الدائم لله” ومنها أيضا جملة “ونعمة الله في دار عبده”.. وهي جمل تتكرّر في جميع جدران القصر، كما تتوّسط هذه الأجنحة باحة فسيحة بها حوض مائي تتوسطه نافورة مائية، كما أن للقلعة مسجد خاص بالملوك الزيانيين يختصر نمطه العمراني تاريخ مدينة تلمسان العريق، بصومعته المشيّدة بستة أقواس كدليل على اختصاص الملوك والسلاطين الزيانيين بالصلاة فيه فقط دون سواهم.
يعدّ القصر أحد أهم معالم الحضارة الزيانية الباقية التي صمدت في وجه المستعمر الفرنسي، من بين أربعة قصور طالها التخريب واندثرت، منها دار الملك، دار أبي فهر، دار السرور ودار الراحة، كانت تنبض حضارة وثقافة خلال العصر الزياني، وحوّلها الاستعمار إلى ثكنات عسكرية وسجون خلال فترة احتلاله للجزائر.

سيـــدي بومديـــن جئتـــك زائـــرا..

غير بعيد عن تلك المنطقة يصادفنا مسجد سيدي بومدين الغوثي الذي يكتسي لدى أهل تلمسان طابعا روحيا وثقافيا مميزا، لاقترانه بتلك الرموز التاريخية التي تشتهر بها مدينة تلمسان، وارتباط اسم - سيدي بومدين الغوثي - بالجهاد والعلم ومشاركته في تحرير بيت المقدس خلال معركة “حطين” الشهيرة التي قادها الناصر صلاح الدين لتحرير بيت المقدس من الصلبيين، كما يظهر من نمط عمرانه ومنارته الشامخة في السماء ذلك الإبداع والفن المعروف لدى الجزائريين وحنينهم إلى بيوت الله وتقديسها، فالمسجد تزينه زخارف ونقوش فنية جميلة تدل على براعة الفن خلال تلك الحقبة التاريخية، منها تلك النقوش الموجودة على أبواب المسجد القديمة جدا، التي تؤدي إلى صحن فسيح بالمسجد، تتوسطه نافورة جميلة تزينها أسلاك النحاس باللّونين الأحمر والأصفر، وأيضا محراب المسجد المصنوع من الرخام الخالص، وأسقفه الخشبية التي قيل لنا أنها مستلهمة من جامع قرطبة بالأندلس.
كما يرتبط بالجامع مدرسة عتيقة المبنى وسط حي العباد العتيق بمدينة تلمسان، المتميز بأزقته العتيقة، يطلق عليها تسمية “مدرسة العباد”، أو “المدرسة الخلدونية” وارتباط اسمها بحلقات التدريس التي كان يعقدها العالم الشهير عبد الرحمان ابن خلدون بهذه المدرسة العتيقة، بها غرف رئيسة وأخرى ثانوية مزينة بالزليج الأصلي الجزائري، منها غرف عتيقة كانت مخصصة لمبيت الطلاب، تطل على قاعة واسعة خصصت للتدريس والصلاة في نفس الوقت لاحتوائها على محراب منمّق بفسيفساء رائعة من الزليج الذي يغطّي جلّ الجدران تقريبا. كما يعلو الغرفة سقف خشبي منقوش بزخارف ممزوجة بالنحاس في نمط معماري يحاكي أصالة مدينة تلمسان وعبقها التاريخي والأثري الجميل، ويشكل الموقع مزارا وقبلة يقصدها السياح في كل أيام السنة لاكتشاف ذلك النمط المعماري والهندسي الأصيل الذي اشتهرت به تلمسان خلال فترة الزيانيين.

الحمّـام “البـالي”.. رحلـة إلى التاريـخ

ترتبط ولاية تلمسان في إحدى مدنها المعروفة بـ«ندرومة” بواحدة من أعجب القصص وأغربها، منها ما يتعلق بالمعالم التاريخية والطبيعية التي ظلت محافظة على نفس رونقها الحضاري والثقافي منذ أكثر من 1000 عام، على غرار قصة “الحمّام البالي” وهو متحف طبيعي وتاريخي مفتوح على الهواء الطلق، يعود تأسيسه ـ بحسب مختصين ـ لأكثر من عشرة قرون من الزمن، ظل محافظا على ذلك الإرث الحضاري الجميل المتوارث جيل بعد جيل، يتميز بروعة في البناء وجمالِية معماره، ولم يتغيّر منه شيء منذ أكثر من 1000 عام.. فرائحة الحطب المنبعثة من بقايا النار المستعرة لفرن الحمام، أو الموقد الأرضي بطابعه التقليدي يسافر بزوار المكان عبر الزمن الغابر، غرف الحمام وقاعته المخصصة للاستحمام  تزيّنها أقواس شبه دائرية مبنية بالصخر وفق الطراز الإسلامي، وأبواب خشبية تؤدي إلى غرف متباينة، قد هيأت بأدراج صخرية كأماكن للجلوس واستقبال الزائرين وقاصدي هذا الحمام، سواء للسياحة والاستجمام أو الاستحمام، ويعدّ الحمام مقصدا للسياح من داخل الوطن وخارجه، تبرز من خلال تلك الصور التذكارية المعلقة على جدارية الاستقبال الخاصة بالزبائن والزائرين للحمام لهذا الموقع الأثري.

مغـارة بنـي عـــاد.. متحــف طبيعـي

تتوفّر مدينة تلمسان، على إحدى أهم المعالم الأثرية والطبيعية النادرة عبر العالم، تدعى مغارة “بني عاد”، يتوافد عليها مئات من السياح من داخل وخارج الوطن خلال السنة، استكشافا لأسرار تلك الصواعد والنوازل الكلسية على مستوى المغارة، التي تمتد ـ بحسب المرشدين السياحيين بالمنطقة ـ على أكثر من 750 متر، بدرجات حرارة مستقرة وثابتة طوال فصول السنة لا تتجاوز 13 درجة مئوية، وبها تجاويف وحجرات تبعث في الإنسان الحيرة والتعجب، إزاء تلك المنحوتات الطبيعية التي تعود إلى آلاف السنين، متوّزعة على ثلاث قاعات: الأولى رئيسية وأساسية تدعى بـ«القاعة الرئيسة” والثانية “قصر الملك” نسبة إلى تلك التجاويف والأواني الفخارية الموجودة بها، وأما القاعة الثالثة فتدعى بقاعة “السيوف” لشكل نوازلها الكلسية، وقد قيل لنا أنها اتخذت هذا الاسم لتشابه النوازل بالسيوف، وتدعى أيضا بقاعة المجاهدين لاتخاذها مكانا لراحة المجاهدين خلال كفاحهم ضد المستدمر الفرنسي، الذي قرّر طمس جزء معتبر من هذا المتحف الطبيعي النادر لمحاصرة المجاهدين أيام الثورة التحريرية المباركة.

أصالــة وأناقة

تعدّ “الشدة التلمسانية” المصنفّة في اليونيسكو ضمن التراث اللامادي للإنسانية، من بين العادات والتقاليد التي تميز العائلات التلمسانية إلى يومنا هذا.. تلبسها العروس خلال حفل زفافها، وقد أكد لـ«الشعب” مصممّي هذه الأزياء أن الجدّات والأميرات كانت ترتديه فيما مضى - أيام فترة الحكم الزياني ـ وقد سميت بالشدة بحسب خبراء الزّي التقليدي بالمنطقة “إلى شدة تحمل العروس لهذه الأوزان التي ترتديها، والتي يصل وزنها إلى 30 كيلوغرام، حيث تتكوّن من المجوهرات والحلّي، ويختزل هذا اللّباس قيمة فنية وجمالية وتاريخية تندرج ضمن تلك الممارسات الاجتماعية المتعدّدة المرتبطة بالتاريخ الطويل لمنطقة تلمسان، ويعدّ هذا اللباس التقليدي أساسيا للعروس في حفل زفافها، حيث تحرص العائلات التلمسانية على ارتدائه لارتباطه برموز التراث بمنطقة تلمسان، إذ تعد كل قطعة مكونة لهذا اللباس تمثل رمزا لمختلف الحضارات التي تعاقبت على المنطقة، على غرار القفطان والبلوزة والفوطة والشاشية التي ميزت فترة العثمانيين والأندلسيين والعرب والأمازيغ وفق ما أكده الباحثون في شرح هذا اللباس التقليدي، الذي يعكس ثراء المنطقة وغناها بالحرف التقليدية التي تزيّن أزقتها وحوانيتها العتيقة، على غرار صناعة النحاس والسروج والفخار وغيرها من الحرف التي تشتهر بها مدينة تلمسان العريقة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19830

العدد 19830

الأربعاء 23 جويلية 2025
العدد 19829

العدد 19829

الثلاثاء 22 جويلية 2025
العدد 19828

العدد 19828

الإثنين 21 جويلية 2025
العدد 19827

العدد 19827

الأحد 20 جويلية 2025