تتأسّــس على واقـع التّجربـة الإنسانيـة

الكوميديا المسرحية..نقــد هـادف يتجـاوز التّرفيه

أسامة إفراح

 الكوميديا في المسرح وسيلة أساسية للتأمل في الأعراف المجتمعية والعلاقات الإنسانية والمعضلات الوجودية، تتّسم بتأثيرها القوي على الوعي الفردي والجماعي. وعلى عكس نظيرتها التراجيديا، تنطلق الكوميديا من الواقع، لتتفاعل مع جمهورها على مستويات متعددة، ولكنها تتجاوز مجرد الترفيه، لتصبح أسلوبًا حيويًا للخطاب يتحدى التجربة الإنسانية وينتقدها، وفي نهاية المطاف، يُثريها. ويزخر المسرح الجزائري بتجارب كوميدية، استلهمت نصوصها من البيئة المحلية، وعالجت، بعبقرية، قضايا المجتمع.

 في البداية، تشير المراجع إلى تحوّل صفة “الكوميدي”، التي تعني “المُضحك”، إلى مفهوم جمالي. والإضحاك ليس شرطا لوجود الكوميديا، كما أنّ كلمة كوميديا لا تفترض دائما وجود الإضحاك، وقد عرف تاريخ المسرح أنواع عروض كثيرة أكثر ارتباطا بالإضحاك، ومع ذلك لا تُصنّف ككوميديا. وفي حين تعتبر دراسة الكوميديا، كنوع، اختصاصا مسرحيا بحتا، فإن دراسة المُضحك تدخل في اختصاصات متنوّعة تعالجه كتأثير على المتلقي، أو كظاهرة تتجذّر اجتماعيا وتاريخيا في حضارة ما.

تطوّر الكوميديا وأنواعها

اشتقت “كوميديا” من الكلمة اليونانية Komedia وهي أغنية طقسية كان يغنيها المشاركون المتنكّرون بأقنعة حيوانية في مواكب الإله ديونيزوس في الحضارة اليونانية. وقد تحدّث أرسطو عن الكوميديا وأصولها في كتابه “فن الشعر” (الفصلين الرابع والخامس) واعتبرها “نوعا مسرحيا يناقض التراجيديا”.
بعد ذلك، وعبر تاريخ المسرح، استخدمت كلمة كوميديا بمعانٍ ثلاثة: فهي في الأساس، كما قلنا، اسم لنوع محدد من الأنواع المسرحية يختلف عن التراجيديا. كما أُطلقت تسمية كوميديا في القرن 16 وبداية القرن 17 على المسرحية بشكل عام. واستخدمت تسمية كوميديا أيضًا للدلالة على كل مسرحية تحمل طابع الإضحاك بغض النظر عن نوعها.
وفي هذا الصدد، تقول كل من ماري إلياس وحنان قصاب: “من هذا المنطلق يبدو تعريف الكوميديا إشكالية بحد ذاته، فقد كانت بالحقيقة على مدى تاريخها نوعا مسرحيا له تاريخ طويل في الغرب، بدأ مع اليوناني أرسطوفان (38 ق.م)، واستمر في الحضارة الرومانية، ثم غاب في القرون الوسطى ليعود للظهور منذ عصر النهضة وحتى القرن 18 (انظر الأنواع المسرحية). والكوميديا كنوع تعرف من خلال معايير جمالية اجتماعية تميزها عن الأشكال المسرحية الشعبية المضحكة، وعن نقيضها الجاد وهو التراجيديا. كما انبثق عنها مفهوم جمالي يُناقض مفهوم المأساوي هو المضحك بتنوّعاته الهزلي والساخر.
ووفقا لقصاب وإلياس، فإنّ “تحديد تاريخ الكوميديا بتاريخ النوع المسرحي هو عملية منقوصة تغيب أنواعا مسرحية هامة، أو أشكالاً تجمع بين الجاد والمضحك بكل أشكاله مثل “البورلسك” و«الغروتسك” وغيرهما، ذلك أنّ الكوميديا بالمعنى الواسع للكلمة عانت دوما من التأرجح بين انتمائها إلى أصول شعبية وبين طموحاتها الأدبية. والكوميديا بتعريفها العام هي مسرحية يقوم الفعل الدرامي فيها على تخطي سلسلة عقبات لا تحمل خطرا حقيقيا ولذلك تكون الخاتمة فيها سعيدة. وتهدف الكوميديا إلى التسلية والنقد أحياناً، وهي تجذب الجمهور من خلال عرض خلل ما (موقف أو شخصية أو ظاهرة) عبر تضخيمه بحيث يتمكن المتفرج من النظر إلى هذا الخلل بشكل عقلاني ومن الخارج، وبذلك يشعر بتفوّقه. وهي لا تستدعي الانفعال (الخوف والشفقة) بقدر ما تطلب من المتفرج موقف محاكمة، وبالتالي فإنّ التطهير فيها هو نوع من التنفيس واستثارة الوعي. ولذلك فهي قابلة لتأثير التغريب ولأسلوب المسرحة أكثر من غيرها من الأنواع التي تعتمد التمثل شبه الكامل بالبطل”.
كما تتميّز الكوميديا، بكافة أشكالها، عن التراجيديا بكون الأولى أكثر التصاقاً بالواقع اليومي وأكثر ارتباطا بالحياة العادية، عكس الثانية التي تطرح عالما مثاليا. ولأنّ الكوميديا تعكس غالبا واقع الجمهور الذي تسخر منه، بل وتحاكمه أحيانا، فإنّ جمهورها كان دائما أوسع وأكثر تنوعا من جمهور التراجيديا.

ومن أنواع الكوميديا في المسرح

كوميديا ديلّارتي: مصطلح إيطالي يعني حرفيا “كوميديا الفن”، ولكن الفن هنا لا يحمل معناه الجمالي وإنما يحمل معنى الاحتراف، خاصة وأنّ هذا النوع تزامن مع تشكّل تعاونيات تضم الممثلين المحترفين. وتُعرف أيضا بكوميديا الارتجال، وتعود أصولها إلى عروض الممثلين المتجوّلين الإيمائية، وتعتمد على الارتجال، ولكنه ليس عفويا بل نتيجة تحضير، ويتطلب تقنية عالية وسرعة بديهة، ما يجعل دور الممثل محوريا.

الكوميديا البطولية: نوع يقترب كثيرا من التراجيكوميديا، لجمعه بين مقومات الكوميديا والتراجيديا، ويتميّز بكون الفعل الدرامي ذا “طابع جليل”، يحمل طابع الخطر دون الوصول إلى حد التهديد بالموت، ما يجعل الخاتمة سعيدة وتثير انفعال المتلقي دون استثارة الخوف والشفقة.
كوميديا الحبكة: وُلدت في القرن 17 في فرنسا وتستمد أصولها من الكوميديا اللاتينية والإيطالية، وقد تسمّى أيضا “كوميديا الموقف”، وتكون المسرحية ذات إيقاع سريع وتتألف من مجموعة حبكات متتالية ومعقدة. ومن الأمثلة عنها “كوميديا الأخطاء” لشكسبير، و«ألاعيب ساكابان” لموليير.
كوميديا العادات: يطلق عليها أيضا كوميديا السلوك أو الطباع، تقترب كثيرا من كوميديا الصفات، كما تحمل بعض سمات كوميديا الموقف وكوميديا الأفكار، فهي تدرس التصرف الإنساني داخل المجتمع، وتقوم على التناقض بين التزام الشخصية بالسلوك الاجتماعي والرغبة الطبيعية الناجمة عن طباع وصفات هذه الشخصية.

القسنطينـي..رويشد وعلولــة.. نمـاذج عليــا

“تعد المسرحية الجزائرية الكوميدية فضاءً ثقافيا للبوح بما تضمره البنى السياسية والاجتماعية بخاصة، وهذا ما يؤكد فاعلية النصوص الكوميدية في إبراز أنساق المسكوت عنه”. هو ما تراه ندى بوكعبن (جامعة قالمة) التي تعتبر أن المسرحية الجزائرية الكوميدية تمثّل حقلا خصبا للبحث عن الأنساق الثقافية المضمرة بالجمالية الكوميدية، التي تعد قناعا يختزل التاريخ والعادات والثقافة والفلكلور، وتتضمّن بنية المسرحية الكوميدية العديد من المضمرات النسقية التي تتعلق بنظرة المسرحي تجاه مختلف قضايا مجتمعه، كما أنّ “الجمالية الكوميدية ما هي إلا حيلة لتمرير أنساق مضمرة”. وتضيف: “دراسة الكوميديا في النص المسرحي الجزائري من منظور النقد الثقافي يعتبر موضوعا إشكاليا في حد ذاته، لما يتمتع به من خصوصية فكرية وثقافية، وما يمثله من حداثة”.
من الأمثلة على ذلك، نص “الحاج في باريس” المسرحي لرشيد القسنطيني، الذي خصّته الباحثة بالدراسة بهدف “تسليط الضوء على ما وراء خطاب الكوميديا”، ووجدت أنه يزخر بأنساق ثقافية ظاهرة ومضمرة تتصارع في نسيج النص، الذي عكس الثقافة الجزائرية، واعتمد على الجمالية الكوميدية التي بلورت التصورات والممارسات الاجتماعية على شكل رموز وأنساق ثقافية تتحرك في الفضاء الثقافي للعصر. وتحتوي مسرحية “الحاج في باريس” على زخم كوميدي ساخر مع امتلاء ثقافي، وارتواء دلالي وسيميولوجي جمع فيه الفنان بين ملامح الواقعي والكوميدي باقتدار كبير، وقد تمكّن قسنطيني من خلق سياق لنقد كل السلوكيات المنبوذة وعلى رأسها الكذب، والاحتيال، والخداع.
من جهتها، درست حيزية عزوز هني (جامعة سعيدة) مسرحية “البوابون” (1968) لرويشد (أحمد عياد) نموذجا لملامح الكوميديا في المسرح الجزائري، وذكّرت الباحثة بمكانة رويشد المرموقة في المسرح الجزائري، “إذ تملك أعماله الدرامية بصمة أصيلة خاصة به، حيث استطاع أن يتوغّل في أعماق التحولات الاجتماعية التي تلت سنوات الاستقلال، فتميز مسرحه بالأسلوب الدرامي الراقي وروح الفكاهة التي اصطبغت بها شخصيته، فصار بذلك نموذجا للفرجة، ومثالا للمسرح الكوميدي الهادف الذي تنبع قضاياه الساخرة من عمق المجتمع، نابعة من وعيه بمعاناة مجتمعه، كما قدّم لنا أعمالا كوميدية خالية من التهريج، والبحث عن مكنونات الشخصية الداخلية من خلال مسرح انتقادي واقعي”.
كما ذكّرت الباحثة بالجماهيرية التي استطاع رويشد أن يحصل عليها، ونسبة المشاهدة الكبيرة لأعماله ونجاحه في استقطاب الجمهور، حتى أن “قاعات العرض كانت مملوءة كليا”.
وإذا كان رويشد، على غرار سابقه رشيد قسنطيني، قد عمد إلى توظيف الكوميديا في تفكيك الظواهر الاجتماعية، ومعالجة قضايا تفشت في المجتمع، فإنّه نجح أيضا في الجمع بين الكوميديا والتراجيديا دون إخلال بالهدف الترفيهي، خاصة وأن أعماله حملت من الدراما الإسقاط السياسي والاجتماعي.
واعتمد رويشد على خلط بعض التقنيات الحرفية للممثل، فوفق بين تقنيات هزلية كاريكاتيرية، وتقنيات أسلوب الجسد، وتقنيات التكرار وقلب الصور والمواقف والشخصيات، مع الاعتماد على مزاياه الخاصة كتميزه في صوته أو في حركته الجسدية وغيرها من المزايا.
أما بلقاسم بودن (جامعة الجلفة) فسعى إلى تسليط الضوء على تمظهرات كوميديا ديلارتي في مسرح الحلقة، واختار مسرحية “حمق سليم” (1972) لعبد القادر علولة نموذجا. ويدور مضمون المسرحية حول فساد النظام الإداري البيروقراطي، “بوصفه جهازا يقضي على إنسانية الفرد ويمارس عليه قمعا شديدا” يحتم على الفرد “أن يتخذ من الجنون أسلوبا يعالج به هذا الوضع المتأزم”، وهز الجنون المجسّد في شخصية الموظف البسيط “سليم”، يقول الباحث، مضيفا: “لعل الاحترافية في الأداء جعلت علولة يبتكر الأسلوب وتقنيات الاتصال وفق النمط البطولي الفردي الذي لا يقبل قوانين الاحتكار، فهذا نمط كوميدي ديلارتي يأبى الاستنساخ، ويرفض القانون المسرحي الدرامي الملتزم، فملامح الديلارتية تقفز على البيروقراطية التي كانت هي لب وجوهر موضوع المسرحية”.
وخلص بودن إلى أنّ مساحات الإبداع المسرحي لدى عبد القادر علولة امتدت “حاملة معها التنوع والكثرة والجودة في الكتابة الأداء المسرحي، وفي الإخراج المسرحي أيضا، وكانت له أدوار كوميدية متينة تبحث عن التأصيل والهوية، وشملت موضوعات كثيرة تعالج قضايا الوطن والمواطن، وقد حاول أن يعيد ترتيب نظاميْ الحكامة والمواطنة من خلال اندفاعاته الفنية الكبيرة، وهذا التنوع هو قلق تنويري ساهم في ميلاد نوع من التواصل الحي بين الممثل وذاته المسكونة بالهواجس، فتوصّل إلى شكل مسرحي خاص قادر على إنتاج آليات تواصل بين العرض والجمهور من جهة، وبين صوره التمثيلية ونفسه من جهة أخرى”.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19830

العدد 19830

الأربعاء 23 جويلية 2025
العدد 19829

العدد 19829

الثلاثاء 22 جويلية 2025
العدد 19828

العدد 19828

الإثنين 21 جويلية 2025
العدد 19827

العدد 19827

الأحد 20 جويلية 2025