أكد كاتب السيناريو ودارس علم الاجتماع، عبد الهادي بلغيث، أن صناعة السينما شهدت تحولات جذرية منذ نشأتها، متأثرة بتطور التكنولوجيا التي أعادت تشكيل أساليب الإنتاج والتوزيع والعرض. وأوضح أن التحول من السينما الصامتة إلى السينما الناطقة في عشرينيات القرن الماضي شكل منعرجا كبيرا، لتتطور لاحقا نحو السينما الكلاسيكية التي ازدهرت ما بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي، حيث برزت أعمال رومانسية ودرامية وكوميدية استفادت من تقنيات تصوير متقدمة وإخراج مبتكر ومؤثرات صوتية متطورة.
أشار عبد الهادي بلغيث إلى أن التكنولوجيا لعبت دورا محوريا في إثراء التجربة السينمائية، إذ مكنت من تجسيد شخصيات خيالية وخلق مشاهد واقعية في بيئات غير موجودة فعليًا، ما أضفى على الأفلام طابعا بصريا مدهشا وجعل الإيقاع السردي أكثر إثارة وجاذبية للمشاهد.
وقال المتحدث إن التكنولوجيا الرقمية مثلت نقطة تحوّل حقيقية في الصناعة السينمائية، ليس فقط لأنها استبدلت الوسائط التقليدية، بل لأنها غيرت منطق العمل في مختلف المراحل، من الإنتاج إلى ما بعد الإنتاج، وصولا إلى التوزيع والاستهلاك. واعتبر أن الكاميرات الرقمية الحديثة التي توفر دقة تصوير تصل إلى 4K و8K، إلى جانب القدرة على التصوير في الإضاءة المنخفضة، منحت المخرجين والمصورين حرية إبداعية لم تكن متاحة في السابق.
كما أشار إلى أن هذه الكاميرات، رغم كلفتها الأولية المرتفعة، ساعدت في تقليل التكاليف العامة للإنتاج، خاصة عندما تقترن بتقنيات مثل المؤثرات البصرية CGI والشاشات الزرقاء والخضراء، التي مكّنت من خلق بيئات وشخصيات افتراضية تبدو حقيقية وواقعية.
وفي ما يتعلق بمرحلة ما بعد الإنتاج، أكد بلغيث أن البرمجيات الحديثة غيرت وجه المونتاج السينمائي، إذ أصبح بالإمكان تعديل المشاهد ودمج المؤثرات البصرية المعقدة بدقة وسلاسة، مع إتاحة العمل المشترك بين فرق في مناطق جغرافية متفرقة، مما اختصر الوقت والجهد وسرع من وتيرة إنجاز الأعمال.
وفي جانب التوزيع والعرض، أوضح بلغيث أن المنصات الرقمية مثل Netflix وDisney+ أحدثت ثورة في كيفية تلقي الجمهور للأفلام، حيث تجاوزت النمط التقليدي المرتبط بقاعات السينما، وفتحت المجال أمام صناع الأفلام المستقلين للوصول إلى جمهور عالمي دون المرور بالوسطاء التقليديين. وأضاف أن تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز أصبحت جزءًا من تجربة المشاهدة، مما يجعل المتفرج عنصرا فاعلا في تفاعل مباشر مع الفيلم.
وقال بلغيث، إن الأثر الأهم للتحول الرقمي يتمثل في تمكين الفئات الشابة من دخول عالم السينما دون عوائق كبيرة، مشيرًا إلى أن الكاميرات الرقمية المتاحة بأسعار معقولة، وتطبيقات المونتاج المجانية أو زهيدة التكلفة على الهواتف الذكية، سمحت بإنتاج أفلام مستقلة ذات جودة احترافية، شاركت في مهرجانات دولية وحققت انتشارا واسعا، ما سمح بظهور رؤى جديدة وطاقات إبداعية واعدة.
أما عن واقع السينما الجزائرية، فبين بلغيث أن الحديث عن التكنولوجيا الرقمية يجب أن ينطلق أولا من واقع البنية التحتية للقطاع، معتبرًا أن أي طموح رقمي لن ينجح ما لم يتم تدارك الاختلالات العميقة التي يعاني منها الميدان. وقال في هذا السياق: “لا يمكن التفكير في استخدام التكنولوجيا الرقمية دون إعادة الاعتبار إلى قاعات العرض التي اختفت من المشهد أو تحوّلت إلى بنايات مهجورة”.
وشدد المتحدث على ضرورة ترميم وإعادة فتح قاعات السينما عبر مختلف ولايات الوطن، إلى جانب إنشاء قاعات جديدة، لضمان وصول الأفلام الحديثة، سواء الرقمية أو التقليدية، إلى الجمهور المحلي. كما دعا إلى تسهيل الإجراءات الإدارية لمنح التراخيص، ودعم مشاريع التكوين في تقنيات السينما، من تصوير ومونتاج وكتابة سيناريو، لتكوين قاعدة فنية قادرة على التعامل مع الأدوات الرقمية باحترافية.
وأشار عبد الهادي بلغيث إلى أن التكنولوجيا الرقمية يمكن أن تساهم في تجاوز الكثير من العقبات الإنتاجية، موضحًا أن استخدام الكاميرات الرقمية من شأنه تقليل كلفة الإنتاج، وتوفير مرونة أكبر في التصوير، مما يسمح بخلق تجارب سينمائية مبتكرة من قبل شباب طموح لا يملك ميزانيات ضخمة. كما رأى أن أدوات ما بعد الإنتاج الرقمية تمكن المبدعين الجزائريين من تجسيد رؤاهم الفنية دون الحاجة إلى استوديوهات ضخمة أو تقنيات معقدة يصعب الوصول إليها.
وفي ما يخص التوزيع، قال بلغيث إن المنصات الرقمية تتيح حلا عمليا لمشكلة نقص قاعات العرض، إذ يمكن توجيه الإنتاج السينمائي المحلي نحو الإنترنت ليصل إلى الجمهور الجزائري داخل البلاد وخارجها، ويساهم في ترويج الثقافة المحلية ويُعيد للمشاهد الثقة في الإنتاج الوطني.
كما أضاف أن هذه المنصات يمكن أن تفتح الباب أمام الأرشفة الرقمية للسينما الجزائرية، عبر رقمنة الأفلام القديمة وحفظها من التلف، ما يمكن الأجيال الجديدة من الاطلاع على ذاكرة بصرية كانت مهددة بالاندثار.
وختم بلغيث بالتأكيد على أن “الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية في السينما الجزائرية لا يجب أن تكون مجرد حلم، بل مشروعا وطنيا قائما على تصور متكامل، يبدأ من إصلاح البنية التحتية، ويمر عبر التكوين والدعم، ليصل في النهاية إلى بناء صناعة سينمائية حديثة وقادرة على المنافسة والانتشار العالمي.