توظيف التّكنولوجيات الحديثة في الصّناعة السّينمائية

السّينما..بين الإبداع الفني والتوليد الآلي

أسامة إفراح

شهدت الصناعة السينمائية خلال العقود الأخيرة تحوّلا جذريا بفضل التقدم التكنولوجي، وغيّرت التكنولوجيا الرقمية وجه السينما المعاصرة، فسمحت بتوسيع آفاق الخيال، وتخفيض التكاليف، وتحسين جودة الإنتاج. غير أن الاستخدام غير المتوازن لها قد يُنتج أفلامًا خالية من الروح الإنساني، كما يثير تحديات أخلاقية ومهنية، ما يجعل ضروريا البحث عن توازن دقيق بين التقنية والفن، بحيث تُستخدم التكنولوجيا من أجل أن تخدم القصة، لا أن تهيمن عليها.

 يُعد اختراع السينما، في حد ذاته، طفرة تكنولوجية، حيث أنه جمع بين عدة اختراعات سابقة في تكنولوجيا الصورة والحركة، وقد تحقق ذلك فعليًا على يد الأخوين لوميير سنة 1895، حين دمجا التصوير الفوتوغرافي، وآلية العرض، وتقنية الحركة المتعاقبة في جهاز “السينماتوغراف”، ما جعل ولادة السينما ممكنة كتكنولوجيا مستقلة.
كما اخترعت السينما مفهوم “الزمن المُسجل”، وأحدثت طفرة في أشكال التلقي والمعرفة، بل ومهدت لتقنيات لاحقة: التلفزيون، والفيديو، والواقع الافتراضي.

التكنولوجيا تدخل السينما

ولكن توظيف التكنولوجيا الرقمية بدأ في السينما بشكل جدي في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، حيث ظهرت أولى المحاولات باستخدام المؤثرات البصرية الحاسوبية (CGI). ومن أبرز هذه المحاولات فيلم “The Abyss” (1989) للمخرج جيمس كاميرون، الذي احتوى على أول شكل رقمي مائي متحرك. ثم جاء فيلم
( 2 Judgment Day Terminator: “1991)، الذي رسخ استخدام المؤثرات الحاسوبية في تقديم شخصيات معدنية متحولة بطريقة غير مسبوقة.
أما الانطلاقة الحقيقية فكانت مع فيلم
(“1993 Jurassic Park“) الذي جمع بين الرسوم المتحركة الحاسوبية والنماذج الفيزيائية الواقعية، محدثًا ثورة في تقنيات تصوير المخلوقات الخيالية.
ثم تطورت التكنولوجيا الرقمية في عدة مجالات داخل الصناعة السينمائية، منها: التصوير الرقمي: فاستبدال الكاميرات التقليدية بكاميرات رقمية عالية الدقة (مثل كاميرات RED وARRI Alexa) سهل عملية التصوير، وقلل من تكلفة الإنتاج، وفتح المجال للتعديل الفوري على اللقطات.
المؤثّرات البصرية: أصبحت الآن أكثر تعقيدًا وواقعية، ويُستخدم فيها برامج متقدمة مثل After Effects، Maya، وUnreal Engine. ومن أبرز الأمثلة فيلم “Avatar” (2009) الذي استخدم تكنولوجيا التقاط الحركة (motion capture) لابتكار عالم خيالي ثلاثي الأبعاد بالكامل.
تقنيات الواقع الافتراضي والمعزّز: بدأت تُستخدم لتصميم مواقع التصوير الافتراضية وتقديم تجارب سينمائية تفاعلية.
الذّكاء الاصطناعي: بدأ في دخول السينما عبر توليد مشاهد اصطناعية، تحليل السيناريوهات، تحسين جودة الصوت والصورة، “إعادة الشباب الرقمي” للممثلين كبار السن، بل وحتى “إحياء” ممثلين متوفين. مثال على ذلك فيلم (“2016 Rogue One: A Star Wars Story“)، الذي أعاد شخصية الممثل “بيتر كوشينغ” رقمياً بعد وفاته.
وقد كان (“2024 The Last Screenwriter“) أول فيلم طويل يُكتب بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي (4.0ChatGPT).

مقاربات نظرية

أثار هذا التوظيف السينمائي للتكنولوجيا اهتمام الباحثين والدارسين، ويمكن أن نلخص هذا الاهتمام في مجموعة نظريات ومقاربات، من بينها:
نظرية الوسيط (مارشال ماكلوهان): فكرتها الأساسية أن “الوسيط هو الرسالة”، أي أن طريقة عرض المحتوى (الوسيط التكنولوجي) تؤثر في معناه أكثر من المضمون نفسه. وبتطبيق النظرية على السينما، نقول إن استخدام التكنولوجيا الرقمية لا يغيّر فقط في شكل الفيلم، بل في بنيته الإدراكية أيضا، وطريقة تلقيه. وتفسر النظرية كيف تُعيد التكنولوجيا تشكيل حدود التجربة السينمائية، بحيث يصبح الفيلم نفسه مرآة لتقنيات العصر.
نظرية ما بعد السينما (ستيفن شافيرو): وتسلّط الضوء على الانتقال من “السينما التقليدية” إلى أشكال جديدة من السرد، بفعل التكنولوجيا الرقمية. كما تركز على كيفية تغيير التكنولوجيا طبيعة الفيلم بوصفه وسيطا خطيا إلى تجربة شبكية، تفاعلية، وغير محددة بزمن أو مكان.
مقاربة الواقعية الرّقمية (ليف مانوفيتش): وترى أن المؤثرات الرقمية تُعيد تعريف “الواقعية السينمائية”، إذ لم تعد محكومة بقدرات الكاميرا فقط، بل بقدرات الحاسوب. فقد نجد أفلاما تبدو “واقعية” لكنها صُنعت بالكامل رقميا.
مقاربة التقنية الثّقافية (ليف مانوفيتش، مارك هانسن): هي مقاربة بين التكنولوجيا والثقافة، تنظر إلى السينما الرقمية كمنتَج ثقافي وتقني في آنٍ واحد. وتكز المقاربة على تأثير البنية التحتية التكنولوجية (البرمجيات، الذكاء الاصطناعي، أدوات الإنتاج) على المحتوى والرسالة الثقافية.
مقاربة المؤلّف الرّقمي (شين دينسون، جوليا ليدا): تمتد من نظرية المؤلف الكلاسيكية، لكنها تُعيد التفكير في “المخرج” وسط فريق يعتمد بشدة على التكنولوجيا. فالمخرج لم يعد وحده هو “العبقري الخلّاق”، بل أصبح جزءًا من شبكة إنتاج رقمية.
مقاربة “المشهد المفرط” (نيكولاس ميرزوف): تركّز على تأثير الوسائط الرقمية على تمثيل الواقع، مما يؤدي إلى إعادة تشكيل التجربة البصرية. وترى أن الصورة الرقمية لم تعد شفافة أو “نافذة إلى الواقع”، بل أصبحت مفرطة التركيب والوساطة، ما يخلق “مشهدا” مركبا أكثر من مجرد تمثيل بسيط.
كما توجد مجموعة مقاربات ثقافية ناقدة تعيد التفكير في التكنولوجيا من وجهات نظر ما بعد استعمارية أو محلية. فباستخدام التكنولوجيا الرقمية، يمكن للسينما أن تعبر عن تجارب ثقافية متنوعة، بعيدًا عن الهيمنة الغربية، وتُظهر أفلام من الهند، الصين، وإفريقيا، كيف يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة للتعبير الثقافي المحلي. ومن أبرز الأسماء في هذا السياق “آرجون أبادوراي”، و«أكينتوي أوغبودو”.

فوائد ملموسة..وأضرار محتملة

إنّ لتوظيف التكنولوجيا الرقمية في السينما فوائد عديدة، من بينها خفض التكاليف، فهي تقلّل، على المدى الطويل، من تكلفة الإنتاج عبر تسريع العمليات وتقليل الحاجة للديكور أو السفر لمواقع تصوير بعيدة. كما تساعد على تحقيق خيال المخرجين، بحيث تمكّنهم من تقديم عوالم خيالية، أو مخلوقات غير واقعية، أو أحداث تاريخية بدقة مذهلة يصعب تحقيقها بوسائل تقليدية.
وتسهّل التكنولوجيا عمليات المونتاج والتحرير، فالبرمجيات تتيح تعديل المشاهد بسهولة وسرعة، كما تعزز تجارب الجمهور، فمن خلال المؤثرات الخاصة ثلاثية الأبعاد، أصبحت تجربة المشاهد مع الفيلم غامرة أكثر.
ورغم الفوائد الكبيرة، إلاّ أن هناك سلبيات محتملة لتوظيف التكنولوجيا الرقمية في السينما، من بينها فقدان الطابع الإنساني، فالاعتماد المفرط عليها قد يُفقد الأفلام صدقيتها ودفئها البشري، كما في بعض أفلام الخيال العلمي التي تبدو “باردة” بصريا. كما نشير إلى الابتذال البصري، فبعض الأفلام تستخدم المؤثرات بشكل مفرط على حساب جودة القصة، ما يؤدي إلى إنتاج أعمال ضعيفة دراميا.
ونذكر أيضا تهديد وظائف العاملين التقليديين، كصنّاع الديكور، فنيي الإضاءة، أو حتى ممثلين فرعيين، الذين بدأت التكنولوجيا تحل مكانهم. ولا ننسى المخاوف الأخلاقية، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في “تزييف” الوجوه أو “إحياء” ممثلين دون موافقة واضحة، ما يفتح الباب لمشاكل قانونية وأخلاقية.
ويبقى الحل الأمثل لهذه السلبيات هو الحرص على تحقيق توازن دقيق بين التقنية والفن، بحيث تُستخدم التكنولوجيا في خدمة العمل الفني، دون أن يؤدّي ذلك إلى هيمنتها عليه.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19794

العدد 19794

الأربعاء 11 جوان 2025
العدد 19793

العدد 19793

الثلاثاء 10 جوان 2025
العدد 19792

العدد 19792

الإثنين 09 جوان 2025
العدد 19791

العدد 19791

الخميس 05 جوان 2025