مفاتيح وجوديـة سوريـن كيركغور

قراءة نقدية لمشكلة “القلق الإنساني”

سليمان - ج

يمثّل كتاب الدكتورة أسماء منصور محمد عوض حجاز، “مشكلة “القلق الإنساني” في فكر (كيركغور) دراسة تحليلية نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية”، مساهمة فكرية رفيعة المستوى، تتقاطع فيها دراسة الفلسفة الوجودية العميقة لسورين كيركغور مع النور الكاشف للعقيدة الإسلامية. لا يكتفي هذا العمل بعرضٍ أكاديميٍّ لمفهوم القلق عند كيركغور، بل يتجاوز ذلك ليُقدم قراءة نقدية تحليلية دقيقة، تُظهر مدى شمولية الحلول التي تقدمها العقيدة الإسلامية لهذه المعضلة الإنسانية الوجودية.

 تستهل الدكتورة أسماء حجاز دراستها بتأصيلٍ فلسفيٍّ معمق لمفهوم القلق في فكر كيركغور، مؤسس الفلسفة الوجودية. وتُشير إلى أن القلق عند كيركغور ليس مجرد حالة نفسية عابرة، بل هو بنية وجودية أساسية، متأصلة في كينونة الإنسان، إذ يتفرد مؤسس الوجودية في رؤيته للقلق كـ«دوخة الحرية” أو “الدوار” الذي يعتري الإنسان أمام لانهائية الخيارات المتاحة له، والمسؤولية المطلقة التي تقع على عاتقه جراء هذه الحرية. فوعي الإنسان بكونه كائنًا حرًا يختار مصيره، يُلقي على كاهله عبئًا وجوديًا يُولد القلق.
وتُفصّل الكاتبة ببراعة أنواع القلق التي ميّزها كيركغور، مُبرزةً أبعادها المتداخلة، فتتحدث عن القلق الأخلاقي (قلق الحرية) لتُشرح كيف ينبع هذا القلق من إدراك الفرد لمسؤوليته الأخلاقية الكاملة تجاه اختياراته. ففي اللحظة التي يجد فيها الإنسان نفسه حرًا في الاختيار بين طريقين، يواجه في الوقت ذاته مسؤولية تامة عن نتائج هذا الاختيار. هذا القلق ليس بالضرورة مدمرًا، بل هو قوة دافعة نحو الأصالة الأخلاقية والنمو الذاتي، حيث يُجبر الإنسان على مواجهة ذاته الحقيقية بعيدًا عن الأعذار أو الهروب.
الثاني، هو القلق الديني (اللاهوتي): وعنده تُسلط الدراسة الضوء على هذا المستوى الأعمق من القلق، الذي يُعتبر مفتاحًا للإيمان في فكر كيركغور. ينشأ هذا القلق من شعور الإنسان بـ (الخطيئة الأصلية) أو الوعي ببعده عن الله، وعدم كماله. ويولّد هذا الشعور يأسًا وجوديًا عميقًا، لا يمكن التغلب عليه إلا بـ “قفزة الإيمان”. وتُوضّح الكاتبة أن كيركغور لا يرى الإيمان نتاجًا للعقل أو المنطق، بل يعتبره تجاوزا لهذه الحدود، أو قفزة تُمكن الفرد من الارتباط بالمطلق، وتجاوز حالة اليأس التي يُسببها القلق الوجودي.
ويُبرز الكتاب أن كيركغور لم يقدم “علاجًا” للقلق بمعنى القضاء عليه، بل اعتبره ضرورة وجودية، فالقلق، في رؤيته، هو محفز أساسي للوعي الذاتي، ووسيلة لاكتشاف الذات الأصيلة، والسبيل الوحيد للوصول إلى الإيمان الحقيقي والتصالح مع الوجود.
أضواء الإسلام على فلسفة كيركغور
 تنتقل الدكتورة أسماء حجاز بعد ذلك إلى جوهر دراستها، وهو التقويم والنقد الفلسفي والنفسي والديني لفكر كيركغور، مع التركيز على المنظور الإسلامي، فتُقدم الكاتبة تحليلًا نقديًا لمدى شمولية رؤية كيركغور للقلق، وتُقارنها بالرؤى الفلسفية والنفسية المعاصرة، وتُشير إلى أن تركيز كيركغور المكثف على الذاتية الفردية قد يُغفل أبعادًا مهمة للقلق تنبع من السياقات الاجتماعية والثقافية والتفاعلات البشرية، وهي أبعاد يعالجها علم النفس الحديث بتفاصيل أدق. كما تُسلط الضوء على أن فلسفة كيركغور، رغم عمقها، قد تبدو متشائمة أو لا تقدم حلولًا عملية للمضي قدمًا في الحياة اليومية، حيث تُبقي القلق جزءًا ملازمًا للوجود، بينما يسعى الإنسان دائمًا إلى السكينة.
وترى الباحثة أن النقد الديني في ضوء العقيدة الإسلامية، يمنح منهجا شاملا لمعالجة القلق، وهنا يتجلى عمق الدراسة، حيث تُقدم الدكتورة أسماء حجاز العقيدة الإسلامية كمنهج علاجي متكامل ومتفوق للقلق، مُقارنةً إياه بفلسفة كيركغور التي قد تُبقي الإنسان في دوامة من القلق اليائس. وتُوضّح كيف أن العقيدة الإسلامية تُقدم إطارًا روحيًا وأخلاقيًا يُقلل بشكل جذري من منابع القلق ويُغرس الطمأنينة والسكينة في نفس المؤمن؛ ولهذا، تُبرز الدراسة مبادئ أساسية:
التوحيد المطلق: تُشير إلى أن الإيمان بوحدانية الله، وكونه الفاعل الحقيقي الوحيد في الكون، يُحرر النفس من الخوف من المخلوقات، ومن القلق المتولد عن تعدد الآلهة أو القوى المزعومة. هذا التوحيد يُركز الاعتماد على الله وحده، مما يورث الطمأنينة.
الإيمان بالقدر خيره وشرّه: يُقدم هذا المبدأ كحصن حصين ضد اليأس والقلق من المستقبل المجهول. فإدراك أن كل ما يصيب الإنسان هو بتقدير الله وعلمه، يُرسخ الرضا بقضاء الله ويُقلل من الشعور بالعجز أو الضعف أمام الأقدار، ويُزيل القلق من المجهول.
التّوكّل على الله حق التوكل: تُوضح الدراسة أن التوكل، الذي يأتي بعد بذل الأسباب المشروعة، يُعد مفتاحًا رئيسيًا للتغلب على القلق. فالمسلم يُسلم أمره لله بعد أن يأخذ بكل الأسباب المتاحة، وهذا يُخفف عنه ثقل المسؤولية المطلقة التي يُلقيها كيركغور على الفرد، ويُورثه السكينة والثقة في تدبير الله.
الصّبر والرّضا والتسليم: تُبرز الكاتبة كيف أن هذه القيم الإسلامية تُمكن المؤمن من تحويل المصائب والشدائد إلى فرص للأجر والثواب، بدلاً من أن تكون مصدرًا للقلق واليأس. فالصبر الجميل والتسليم لإرادة الله يُزيل مرارة المحنة ويُعزز القوة الداخلية.
العبادة والذّكر: تُعد هذه الممارسات الروحية، كالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن، بمثابة غذاء للروح يُجدد الإيمان ويُرسخ الطمأنينة. القرب من الله من خلال هذه العبادات يُزيل وحشة النفس ويُغنيها بالسكينة، ويُحول القلق إلى محفز للتقرب إلى الله.
تُقدم الدكتورة أسماء حجاز دلائل قاطعة من القرآن الكريم والسنة النبوية لتأكيد هذه الرؤية الشاملة، مُبرهنة على أن العقيدة الإسلامية لا تكتفي بـ “قفزة إيمان” مجردة، بل تُقدم منهجًا متكاملاً للحياة، يُسهم في بناء نفس مطمئنة، تُحول القلق من معاناة وجودية إلى دافع للتأمل، والعمل الصالح، والرجوع إلى الله، ممّا يُحقق للإنسان التوازن والسكينة في الدنيا والآخرة.
شمولية الحل القرآني للقلق الوجودي
 تُختتم الدراسة بخاتمة جامعة تُجمل فيها الدكتورة أسماء حجاز أبرز النتائج، مُؤكّدةً على أن فهم ومعالجة القلق الإنساني يتطلب منظورًا شاملًا يتجاوز النظرة الفلسفية أو النفسية الضيقة، ليُدمج البعد الروحي والديني. تُجزم الكاتبة بأن العقيدة الإسلامية، بما تملكه من مبادئ راسخة وحلول عميقة، تُقدم نموذجًا متكاملًا للتعامل مع القلق، يُحقق للإنسان السكينة النفسية والاطمئنان الروحي، ويُعد إسهامًا بحثيًا وعلميًا قيّمًا في المكتبة العربية، يُضيء دروب المعرفة في معالجة إحدى أعمق تحديات الوجود البشري.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19792

العدد 19792

الإثنين 09 جوان 2025
العدد 19791

العدد 19791

الخميس 05 جوان 2025
العدد 19790

العدد 19790

الأربعاء 04 جوان 2025
العدد 19789

العدد 19789

الثلاثاء 03 جوان 2025