يتيمة بعمر الإثني عشر

ياسمين زقوق

قبل سنوات عديدة وفي قرية ريفية صغيرة، وفي إحدى بيوتها المتواضعة، كانت تعيش فتاة بعمر 12 سنة فتاة شقراء ذات ضفيرة طويلة كسنابل القمح الذهبية وأعين خضراء اللون ذات بريق صافي ونظرة بريئة وبشرة بيضاء كالحليب ووجنتان محمرتان كقطرة دم و كانت تدعى نجاة.
كانت الفتاة الوحيدة لوالديها من بين أربع ذكور، كان والدها يعمل في إحدى شركات الحديد والصلب بالجزائر العاصمة، ووالدتها ربة بيت بسيطة.. وكانت الفتاة متعلقة بوالدتها تعلقا شديد جدا..
 كانت العائلة مثال للسعادة والحب رغم بساطة عيشهم، كانت نجاة مجتهدة في دراستها مما جعلها تكسب حب معلميها واهتمامهم.. وفي تلك الفترة كانت نجاة تنتظر أخا جديدا، فوالدتها كانت حامل في أخر شهورها وان هذا الولد الرابع للعائلة.
وكون نجاة فتاة مجتهدة، بل وأيضا مطيعة لوالدتها فقد كانت تساعدها بأمور المنزل والاعتناء بجدتها المريضة. فنجاة فتاة محبوبة من الجميع كانت طموحة للغاية تريد أن تكمل دراستها وتحقق أحلامها الفتية...
وبعد طول انتظار جاء اليوم الموعود، لينضم إلى عائلتهم فرد جديد فقد وضعت الأم مولودها وتعالت الأفراح وأهازيج الترحيب بهذا الضيف الصغير، وبدأت زيارات الأهل والأقارب لتهنئ العائلة..
 وبعد فترة قصيرة من الولادة بينما كانت الأم مستلقية في مضجعها مع أختها يتبادلون أطراف الحديث، طلبت من نجاة أن تذهب لتحضر القهوة، و تمددت الأم في فراشها وغاصت في نوم عميق، حضرت نجاة بالقهوة فوجدت أمها نائمة فطلبت من خالتها أن توقظها، نادت عليها مرات ولم تجب فاقتربت منها لتلمسها فلم تتحرك، بدت كأنها غارقة في سبات أبدي، وبالفعل كانت الأم قد دخلت سباتها الأبدي وفارقت الحياة..
 نزل هذا الخبر على نجاة كالصاعقة، لقد رحلت حبيبتها وسندها.. نعم توفيت الأم وهي في الثلاثين من عمرها، رحلت وتركت أطفالها الصغار ورضيعها الصغير في دوامة من الألم والحزن كان موتها بمثابة الدمار لهذه العائلة السعيدة.. هنا أحست نجاة بفراغ كبير داخلها فلم تعد لها أم تشتكي لها الألم، تتقاسم معها الفرح، وتحول ربيعها الجميل إلى شتاء لا يرحل.. وأخذت الفتاة لقب اليتيمة فقيدة الحب والحنان.. لم يكن الأمر سهلا على والدها أيضا، فقد أصبح وحيدا يقاسي المرارة مع أولاده وأصبح الحمل أكبر على الفتاة: رعاية إخوانها وأبيها.. قرر الأب إعطاء الرضيع لخال الأولاد الذي لا يملك أطفالا لأن نجاة لن تستطيع رعايته هو أيضا.. وقرر أن يجعل ابنته تترك الدراسة لتتفرغ لإخوتها.
هذا الخبر كان أكبر ألما، كيف لها أن تتخلى عن مستقبلها وأحلامها، إلا أن الأب كان مصرا، وظلت نجاة تبكي لفترات طويلة في غرفتها، تنظر إلى حقيبتها المدرسية ومئزرها.. شرارة الدراسة لم تمت داخلها، وكانت كلما ذهب والدها إلى عمله ترتدي ثيابها وتذهب إلى المدرسة، تنظر إلى زملائها وهم يدرسون.. وكان الأساتذة يسمحون لها بالدخول لساعات.. فكانت تتجول داخل المدرسة وتتحسر على أيامها.. حاول الجميع إقناع الأب، لكنه كان متمسكا بقراره.
أرسلت المدرسة إستدعاءات كثيرة ولم ينصاع واستسلمت نجاة للوضع بقيت ترعى إخوتها وتعلمت كل أساليب الطبخ والغسيل، وظل الأب أعزبا يبحث عن زوجة صالحة ترعى أولاده.. وبعد سنتين تزوج من امرأة أخرى، كانت معاملتها طيبة مع نجاة وإخوتها واستطاعت أن تملأ الفراغ الذي تركته الأم، حاولت زوجة أبيهم إقناع الأب بأن يرجع نجاة للدراسة بعد هذا الوقت بما أنها هنا وتعتني بالأطفال، لكن عناده لم يتغير وقال إنها كبرت وستصبح ربة بيت لا أكثر... الأب كان يحب ابنته حبا شديدا لكن عناده كان أكبر، وبعد سنوات أصبحت الفتاة جاهزة للزواج.. تقدم العديد من العرسان لخطبتها ولم يرد والدها أن تبتعد عنه، إلا أن جاءها عريس مناسب ويسكن بالقرب منهم فوافق الأب عليه...
كان الشاب شرطيا ويا لجمال الصدف كان يتيم الأم مثلها يقاسمها نفس الألم كأنهما سيكملان بعضهما البعض. تزوجت الفتاة لتؤسس عائلة جديدة وعاشت مع زوجها الحلو والمر، تقاسما الجميل والبشع، فأقدارهم تشابكت بنفس الواقع بعد فترة توفى الأب، لتصبح نجاة يتيمة مرة أخرى لكن زوجها كان سندها وهي الآن أم لثلاث بنات وولد وحيد، أقصى أمالها من الدنيا أن ترى بناتها في أعلى المراتب لتروي فقدان أحلامها... هي تعيش في عائلة سعيدة، تعاني القليل من المرض، لكنها مازالت تقاوم الحياة وقالت إنها لم تغضب من والدها لأنه حرمها من دراستها وهي الآن بلا نجاح وإخوتها كل واحد منهم في مركزه المرموق وأسس عائلة جديدة.. لم تحزن لأنها سقت أحلامها اليوم من نجاح أولادها وحب زوجها.. يتيمة بعمر 12 وأم اليوم بعمر الأربعين.. حبيبتي أمي أحبك.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024