لا شك أن هناك علاقة حميمية تينع في السر والعلانية بين القارئ وبعض النصوص الإبداعية. وقد تستمر هذه العلاقة وتكبر لتصل إلى قمة العشق والهيام وبصدق يكبر معها خوفي عليها من المتطفلين وتجار الكلام ...
والكاتب المبدع هو الذي يحملك إلى قمم العشق ويبحر بك في ذاتك من حيث لا تدري . ويصبح كل ما كتبه لا يخصه هو فقط . بل يتجاوزه ليلتحم بالقارئ . والنص الجيد هو الذي يستأنس به القارئ دون عناء.
«لا هذا كتابي أو كتابك بل هو كتابنا فلنقرأه معا.. .»، هكذا يفتح الكاتب التونسي محسن بن هنية نصه علينا ويدعونا إلى الدخول إلى غرفه بسلام بدون أن نرفع أصواتنا وبكل لطف يطلب منا أن لا نجهر بما سيدور بيننا وبين بنات أفكاره من مغامرات وعلاقات تحت غطاء الكتمان (دون الجهر بالكلام) وهو عنوان مجموعة قصصية لهذا الكاتب المتطلع إلى الأفضل .
لقد احتوت المجموعة على أربع عشرة قصة بل قصيدة بموروثات القصة وباختلاجات الوجدان، فجاءت قصائد تحبل باللذة، وتنجب سنابل الاشتهاء بحيث تكون الرغبة ويكون الترحال في مفاتن الكلام، أين تتشكل صور مثقلة بالحنين والوجد تدفع القارئ للسفر عبر مرآة الكلمات في مفاتن وخصال المرأة الأم والأخت والزوجة والحبيبة والعاملة والعالمة والأديبة. ويتعرى الكاتب أمام أعيننا ليقر بأن حب هذه الأنثى هو أمانة وان ضاعت الأمانة ضاعت الحياة .
«دون الجهر بالكلام» مجموعة من الرسائل الوجدانية تشكل جانبا هاما من السيرة الذاتية لصاحبها وقد تعمد بناءها على هذه الشاكلة حتى تكون معبرة أكثر عن المقصود ومضمونة الوصول إلى أصحاب الشأن .
لقد كانت البداية «مراودة « يحث فيها الراوي صاحبته هذه الأنثى المتغيرة على عدم الانتظار والدخول معه في مغامرة ضد التيار. فيقول لها :
« لم الانتظار وعيشنا طيف خيال وأيام معدودات ما أدبر منها لن يعود.. «
ثم يحاول إغراءها بمعسول الكلام فيحدثها عن الوجد والهوى ويستنجد بقواميس الحب والهيام ليفسر لها لماذا يحبها هي بالذات. وفي غمار الشهوة العارمة وعصف اللذائذ تنظر له من عليائها وقد اختلط فوق رأسه الأبيض بالأسود وتقول له: « أنت مثل أبي «...
فيطأطئ رأسه في صمت ويبقى كلما يضمّد كلومه بالذكريات وبالحنين إلى سنوات الشباب التي لن تعود إليه مهما كثر ماله وتعددت أرزاقه. وينتقل إلى مرحلة ثانية يفقد فيها مشاعره وعواطفه ويختلط الماضي بالحاضر ويتدخل الزمان والمكان ليلتقي بالأنثى ثانية وتكون بينهما،مساومة « : (...» كم تدفع لي ؟ « « كم تستحقين أن أدفع لك ؟ « ...) .
وتصبح العملية تجارية تفتقر لأبسط العواطف والأحاسيس ويقف أمام حقيقة ليس له اختيار فيها فيتذكر ما قاله نزار قباني في يوم من الأيام :
« بدراهمي لا بالحديث الناعم .. كان نهدك كربي .. فصار خادمي .. بدراهمي لا بالحديث الناعم ..).
ثم يتذكر السيدة ( ع ) وكيف داست حدائق وذبحت حمائم الفضيلة وهي أم لطفل وبنتين مات زوجها وباتت تواجه مصاعب الحياة بطرق غير مشروعة وأمام أعين الجميع .
هذه الأنثى التي بهرت المحسن بن هنية وأدخلته في دوامة العشق والرومانسية فيتذكر : «...نرجس ونسرين وفيروز...» كلهن زهرات في مكتبه ينثرن البشر على الملفات وبين الأوراق وخلف الهاتف. ويسعين في حبور الفراشات من مكان إلى آخر ويحققن له كل الرغبات في مرح لا ضجر ولا ملل .
ويتكرر هذا المشهد الجميل في المغازات والمطارات والمستشفيات وفي غيرها من الأماكن العامة والخاصة. إنها المرأة التي ملأت كل الميادين بحضورها الأنثوي العجيب وأصبحت فاعلة بحواسها وخيالها وإمكانياتها الفكرية والعلمية والأدبية أيضا.
وقد تثور عليه من حين لآخر فتتجاهله وتتناساه وتستفزه بفساتينها وعطورها ومساحيقها القزحية وكلامها المعسول . لكنه يواجهها بنرجسيته اللامتناهية وغروره المتزايد بحيث يدعوها أن تسأل العاشقات عن صولاته وجولاته وعن جواده الذي لم يهزم وهو ما زال يصهل ويجمع ولا يكبو في محفل. ويحدثها عن الروابي التي تخطاها وعن الوهاد التي قطعها وعن العيون التي استحم في ينابيعها ونام في ثراها.
والحقيقة «دون الجهر بالكلام « جهرت بكثير الكلام وكشفت العلاقات والأحلام وفتحت أبوابا ظلت موصدة من أعوام .
وقبل أن أنهي هذه القراءة لا بد أن أشير إلى أن الكاتب المحسن بن هنية قال في تقديم كتابه:
« لكل قلم من حبره ما ادعى وحبري إن لم يجد عندك قبولا قد يجد عند غيرك هوى ...»
وقد كتب قصصه ( دون الجهر بالكلام ) دون أن يعلم بأنه تعرى تماما من أعلى الرأس إلى أسفل الأقدام وقد جهر في مجموعته القصصية هذه بكثير الكلام.