تقوم الكتابة الصحفية اليوم بدور من أخطر الأدوار التي تتقرر بموجبها كثير من التحولات التي تحرك العالم وتصنع وجهته. إذ لم تكن الكتابة الصحفية في يوم من الأيام كتابة محايدة، تقف عند عتبة الإعلام والتبليغ، بل الفعل المرتبط بها يجد في الامتدادات السياسية التي تغذيه، وتمده برؤيته الخاصة، ما يجعلها في يد الطبقة الحاكمة أشبه شيء بالمسبار الذي تعرف به حرارة الحراك الاجتماعي بما تبث فيه من رؤى، يكون الهمُّ وراءها تحسس القابليات أو الرفض، أو الاتجاهات التي يمكن للفكرة أن تنسرب إليها في المعالجة والتقدير.
وإنّنا حين نقف أمام المقال الصحفي، لا نقف في حقيقة الأمر أمام صفحة خالية من الكيد والمخاتلة، همُّها الأول في تقديم الخدمات التي تناط عادة بالعمل الصحفي، في رفعه الخبر إلى الرأي العام. بل نقف أمام رؤية تحاول أن تكيِّف فينا القابلية لوضع جديد. ومن ثم تكون الكتابة الصحفية، ليست كتابة إمتاع وإخبار، بل كتابة توجيه وتأثير. غير أننا لا نفكر إلا قليلا في الكيفيات التي تسلكها الكتابة للتأثير، ولا نتساءل عن المقادير التي تقيس بها الأشياء والأفكار، لأنها لا تعرض - في حقيقة الأمر - فكرا جديدا طارئا، وإنما تحاول - استنادا إلى توجهاتها الخاصة - أن تطرح جديدها في السياق الاجتماعي على نحو خاص، وكأنه الفكر الجديد.
لذلك كان البحث في تقنيات الكتابة الصحفية - باعتبارها نصا يُترجم للاستهلاك السريع - بحثا في المقصديات التي تجعل التقنية عاملا من عوامل التأثير والتوجيه. وإذا عدّد الدارس الكيفيات التي يتوجب على المحرر الصحفي اتباعها لكتابة مقال يلبي كافة المطالب الفنية للكتابة الصحفية، فإنه يقدم فقط ورقة خالية من المعنى، لأن المقال الصحفي - على النحو الذي رأينا - لا تتوقف قيمته على الإجادة واتباع القواعد، بل تتوقف على مدى التأثير الذي يحدثه في القراء أولا، وعلى مدى الاستجابات المسجلة، سواء كانت استجابات استحسان ومشايعة، أو استجابات استهجان ونقد، لأن المقال الذي يثير، قد يبيت الإثارة والرفض، كما قد يسعى إلى اكتساب المؤيد المعاضد، فوظيفته ليست وظيفة جمالية بحتة - وإن كانت الكتابة الصحفية تتوسلها في كثير من العروض - بل وظيفة عملية تؤطرها الرؤية السياسية، أو التوجه الأيديولوجي والفكري.
إن قياس درجات الاستجابة في التلقي سلبا وإيجابا، رفضا وقبولا، هي أوكد المعايير التي يلجأ إليها التقييم الصحفي. ومن ثم كانت الكتابة الصحفية، كتابة تتراجع دوما مبتعدة عن الأدبي، وهي تتلبس رداء الجدل والمناظرة، والوعظ..إنها تعلم يقينا أن القارئ لا يبصر الكلمات التي يقرأ، وإنما يبصر الحراك الاجتماعي خلفها، وقد عصفت به المشكلات اليومية التي تثيرها التصرفات الشاذة، أو الأفكار والطرق البالية..
فالذي يمسك المقال الصحفي بين يديه، يمسك يوما من أيام الناس، وقد توزعته الرغبة الاجتماعية، والتسيير السياسي. فبين هذا وذاك تقوم الاعتراضات التي تحاول الكتابة الصحفية تجاوزها من أجل إحلال فكرة، أو نقد، أو توجيه، أو تكييف.