تُعدّ السيادة الثقافية مفهوما معقدا ومتطورا، وتكتسي أهمية بالغة للحفاظ على الثقافات المتنوّعة وازدهارها. كما تشكّل دعامة أساسية لحماية الهوّية الوطنية من الهيمنة الخارجية وتحدّيات العولمة. ولعلّ التطرّق إلى هذا الموضوع، في ذكرى استرجاع السيادة الوطنية، يكسبه بُعدا مختلفا، خاصّة وأن التجربة التحررية الجزائرية أثبتت أن المقاومة السياسية والمسلحة والثقافية تسير جنبا إلى جنب لتحقّق الهدف المنشود. وإذا كان هنالك من إنجازات ثقافية لجزائر اليوم، فقد يكون أهمها حماية سيادتها الثقافية.
تكتسي المقوّمات الثقافية للبلاد أهمية بالغة، وتوليها الدولة العناية والحماية على مختلف المستويات.. وكثيرة هي المناسبات التي أكد فيها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون على دور الثقافة والفنون في صون الهوّية الوطنية، وحماية ذاكرة الأمة وتاريخها.
الثقافة.. ومقوّمات الأمة
على سبيل المثال، في 2023، أكد رئيس الجمهورية أن الهدف من إنشاء الثانوية النموذجية للفنون هو سدّ للفراغ الثقافي والفنّي، لدى الجيل الناشئ، لتقوية أسسنا الثقافية والفنية من أجل مواجهة التحدّيات، التي تنطلق من مرجعياتنا الثقافية، على غرار الفن السينمائي، والمسرحي والموسيقي.
وشدّد رئيس الجمهورية، حينها، على أن “دور السينما مُهم ومحدّد في صناعة فكر الفرد الجزائري والمجتمع ككل، وليس للتسلية فقط”.
وقبل ذلك، عام 2021، أمر رئيس الجمهورية بتوفير “الشروط الملائمة للباحثين والمبدعين في شتى الفنون، لإبراز حقيقة النضالاتِ القاسية، والتضحيات الجسيمة من خلال أعمال فنية راقية، وإبداعاتٍ تسمو إلى تضحيات” الشعب الجزائري.
وليس ذلك جديدا على أهل الثقافة في الجزائر، وهم الذين خاضوا ثورة نوفمبر المباركة وشاركوا في مسيرة التحرير، ومنهم من قدّم روحه الطاهرة فداءً للوطن، في سبيل استرجاع السيادة الوطنية، التي لا تكتمل بدون استرجاع السيادة الثقافية.
حماية السيادة الثقافية
وقد تكرّر مفهوم “السيادة الثقافية” في الخطاب الرسمي، وفي أكثر من مناسبة.. مثلا، ومباشرة بعد استلام مهامه الوزارية، عقد زهير بللو وزير الثقافة والفنون في أوّل اجتماع له تعليمات وتوجيهات بمباشرة العمل والاستمرار في تنفيذ برنامج رئيس الجمهورية “الرامية إلى تعزيز دور الثقافة والفنون في حماية السيادة الثقافية والهوية الوطنية”.
وفي مناسبة أخرى، أشاد وزير الثقافة والفنون بالفنانين الجزائريين “الذين وضعوا فنّهم في خدمة السلام والدفاع عن الثقافة الجزائرية الأصيلة”.. وحينما نقول الدفاع، فهذا يعني وجود تهديدات في المستوى الثقافي، قد تكون عامة شاملة سببها ظواهر مثل العولمة والثورة التكنولوجية، أو مقصودة موجهة مثل الغزو الثقافي أو السطو على التراث، ويصير من مهام المثقف والفنان الذود عن هويته وثقافته وتراثه.
وبالحديث عن التراث، خلال العرض الذي قدّمه وزير الثقافة والفنون أمام لجنة الثقافة والاتصال والسياحة بالمجلس الشعبي الوطني، أوضح بللو أن التراث الثقافي (بنوعيه المادي وغير المادي) يشكل مكوّنا أساسيا للسيادة الثقافية الجزائرية، وعليه تم إعداد استراتيجية وطنية لحمايته، باعتماد جملة من التدابير على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ولكن، ما المقصود بمفهوم “السيادة الثقافية” الذي تكرّر أكثر من مرّة في الخطابات الرسمية؟
الحقّ في تقرير المصير الثقافي
تشير السيادة الثقافية، في جوهرها، إلى حق الشعب في التحكم بثقافته وتشكيلها، بما في ذلك تعبيراتها وممارساتها وقيمها، بعيدًا عن الهيمنة أو التدخل الخارجي. وتشمل القدرة على تحديد هوية الفرد ومعاييره الثقافية، وحمايتها من التآكل أو الاستيلاء عليها من قِبل ثقافات أخرى.
وقد تطوّر هذا المفهوم بالتوازي مع الفهم المتغيّر لسيادة الدولة، لا سيما في سياق العولمة وصعود الجهات الفاعلة غير الحكومية.
تاريخيًا، غالبًا ما ارتبطت السيادة الثقافية بالسيادة السياسية، حيث سعت القوى المهيمنة إلى فرض ثقافاتها على الشعوب المستعمرة أو الخاضعة لها. ومع ذلك، حتى في هذه الحالات، غالبًا ما ظهرت المقاومة، ما يدل على الرغبة الدائمة في تقرير المصير الثقافي.
ومن مقاربة قانونية، فإن “السيادة” تبقى المبدأ الذي يقوم عليه القانون الدولي (بحسب ما أكده حكم محكمة العدل الدولية عام 1986). ووفقا لكمال راشدي (جامعة الجزائر 3) فإن مبدأ السيادة الوطنية يرتب مبادئ أساسية في النظام القانوني الدولي، كترجمة سامية لسيادة الدولة، منها: مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية أو الخارجية للدول، وليس المقصود هنا التدخل المسلح فقط بل كل أشكال التدخل أو التهديد لشخصية الدولة والعناصر السياسية والاقتصادية والثقافية لنظامها. كما نجد مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحقها في اختيار النظام السياسي والاقتصادي والثقافي الوطني.
ويضيف الباحث بأن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها الثقافي وفي اختيار النظام الوطني الثقافي وتنميته بكل حرية، يعتبر نتيجة لا مناص منها تترتب عن مبدأ سيادة الدولة، ويستمد أساسه التاريخي من حق الشعوب في تقرير المصير السياسي وتصفية الاستعمار، وكذلك من النصوص والمواثيق الدولية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة وفي مقدمتها اللائحة 2625. ويعترف القانون الدولي بموجب هذا الحق لكل شعب بحقه في الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وحقه في اختيار نظامه الثقافي وتنميته وتحديد شکله وطبيعته ومؤسساته.
ومن النصوص الضامنة لذلك، يذكر الباحث أيضا إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “يونسكو” عام 1966، وكذلك ما تنص عليه اللائحة 3148 الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973، والمتعلقة بالحفاظ على القيم الثقافية وزیادتها ازدهارا، والتي أكدت كذلك على قيمة كل ثقافة واحترام كرامتها والقدرة على صون طابعها المميز وهو حق لكل الدول والشعوب. ويتضمن حق تقرير المصير الثقافي حق كل شعب في التمتع بتراثه الروحي والمادي دونما قيد، وفي أن يعيش حرا وفقا لتقاليده، وفي ظل روابط وطنية ولغوية تخلقها الثقافة السائدة بين أفراد الشعب.
مخاطر العالم المعاصر
وتزداد أهمية السيادة الثقافية اليوم في عالم معولم يشهد تكثيفًا للتبادل والتأثير الثقافي، ويلقى المفهوم صدى لدى الأمم والمجتمعات التي تسعى إلى حماية تراثها الثقافي الفريد وهويتها. مثلا، طبّقت بعض الدول سياسات لتعزيز وحماية صناعاتها الثقافية، مثل السينما والإعلام، من الهيمنة الأجنبية. ويمتد هذا المفهوم أيضًا إلى مجال الملكية الفكرية والتراث الثقافي، حيث تُعد قضايا الملكية والوصول والتمثيل بالغة الأهمية.
وتعيد المستجدات التي يشهدها عالمنا المعاصر تشكيل المفاهيم بما فيها “السيادة الثقافية”. وقد اكتسب هذا المفهوم بعدا اقتصاديا إلى جانب بعده الثقافي والقيمي.
مثلا، يشير مقال حديث لصندوق الإعلام الكندي، على ضوء تهديدات الرئيس الأمريكي ترامب لكندا، أنه “بالنسبة لبعض الكنديين، فإن هذا المصطلح يعني حق أمتنا في تحديد وحماية وتعزيز قيمها وتقاليدها ولغاتها وأشكال التعبير الفني الخاصة بها ـ خالية من التدخل الخارجي. وبالنسبة للآخرين، فإن ذلك يتطلب التزاماً واضحاً بالفنون والثقافة، مما يمكّننا من سرد قصتنا الخاصة، أو بالأحرى قصصنا، من خلال تمكين ثقافاتنا المحلية من عكس رواياتها الخاصة بشكل أصيل. وتعني السيادة الثقافية أيضًا عدم السماح للمؤسسات الثقافية الأجنبية باحتكار قطاعات السينما والموسيقى والفنون الأدائية على أراضينا”.
ويضيف المقال بأنه، مهما كان التعريف الدقيق، فإن “الغالبية العظمى من الكنديين قلقون بشأن سيادتهم الثقافية. وقد أظهر استطلاع للرأي نشرته مؤخرًا “جمعية منتجي الإعلام الكنديين” أن 91% من الكنديين يرغبون في حماية ثقافة بلدهم وهويتهم الوطنية من النفوذ الأمريكي”، كما “يرغب 83% في رؤية استثمارات إضافية في التلفزيون والسينما ووسائل الإعلام الرقمية الكندية”.
وليس هذا الوضع، في القرن الحادي والعشرين، حكرا على دولة بعينها.. وفي هذا الصدد، يتطرق كتاب “السيادة الثقافية ما بعد الدولة الحديثة” إلى هذا المفهوم في ظل تراجع سيطرة الدولة الوطنية بسبب العولمة، والمؤسسات فوق الوطنية، وحركة رأس المال والمعلومات والأفراد عبر الحدود. ويناقش الكتاب كيف أن السيادة لم تعد محصورة فقط في السيطرة على الحدود السياسية، بل تتعداها إلى مجالات مثل الهوية الثقافية، الإعلام، والتحكم في الرموز الثقافية والمعلومات.
يمكن أن تُشكّل العولمة وانتشار الأشكال الثقافية السائدة تحديات للسيادة الثقافية، مما قد يؤدي إلى التجانس الثقافي وتآكل الهويات المحلية. كما يُمكن أن يؤثر تأثير صناعات الإعلام والترفيه القوّية على المشهد الثقافي، ما قد يُهمّش الأصوات والتعبيرات الثقافية المحلية. وما يزال الإرث التاريخي للاستعمار والإمبريالية الثقافية يشكل ديناميكيات القوة المعاصرة، ما يؤثر على قدرة بعض المجتمعات على ممارسة سيادتها الثقافية.
في الختام، نذكّر بما قاله الصيني وانغ هونينغ في مقاله الشهير عام 1994، بعنوان “التوسع الثقافي والسيادة الثقافية: تحدٍّ لمفهوم السيادة”، حينما اعتبر أن الصراع الثقافي، وليس الصراع السياسي أو العسكري، هو الذي شكّل التهديد الأكبر لسيادة الدولة في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
من أجل ذلك، ورغم تعدد الإنجازات في قطاع الثقافة والفنون، إلا أن أكبر وأهم إنجاز تكون الجزائر المستقلة قد حققته اليوم، هو حرصها على سيادتها الثقافية، وتراثها وهويتها الوطنية.