شارع يغلي بارتباك القدرة الشرائية وتآكل الثقة في النخب
تبدو فرنسا هذا العام كجسمٍ يختنق بأزماته الداخلية مع حكومة تستقيل اليوم، بعدما فشلت في إقناع البرلمان، وميزانية مقترحة تقوم على التقشّف وتقتطع من هوامش الرفاه الاجتماعي، وشارع يغلي بارتباك القدرة الشرائية وتآكل الثقة في النخب. في هذا المشهد، تتقاطع الأزمات السياسية مع مؤشرات اقتصادية باردة تُظهر ركودًا ممتدًا، فيما تنزلق الدولة إلى ديْن عام قياسي وعجز مزمن، وتتوسع الفجوة بين خطاب الإصلاح وواقع الخدمات.
تتقدم آلة الاحتجاجات على إيقاع دعوات للإضراب العام يوم 18 سبتمبر، وإضراب مراقبي الحركة الجوية يومي 18–19 سبتمبر، بما يعني عمليًا شللًا جزئيًا في النقل وتعطيلًا محسوسًا لمفاصل الاقتصاد. علاوة على ذلك، فإن حكومة خسرت السند البرلماني والرأي العام اللذين عارضا خطة شد الأحزمة، تجد نفسها أمام لحظة اختبار حادّة عنوانها، كلفة البقاء مقابل كلفة الانهيار.
اقتصاديًا، الأرقام لا تجامل. الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية تحرك ببطء خلال عقد ونصف من الزمن، حيث بلغ قرابة 2.93 تريليون دولار في 2008 إلى نحو 3.16 تريليون في 2024، نمو إسمي محدود لا يواكب الضغوط الديموغرافية وارتفاع الأسعار.
كذلك، سجل عجز الموازنة لعام 2024 نحو 5,8% من الناتج (قرابة 170 مليار يورو)، مع قفزة واضحة في نسبة الديْن العام إلى نحو 113,9% من الناتج في الربع الأول من 2025، وهو مستوى يقيّد هامش المناورة الحكومية ويجعل أي «تصحيح» اجتماعي يدفع ثمنا سياسيا باهظا.
في نفس السياق، ظل العجز التجاري كبيرًا على أساس سنوي، حيث قُدِّر بنحو 83 مليار يورو في 2024، رغم تحسنٍ شهري نسبي في 2025، ما يؤشر إلى بنية تنافسية متعبة وتبعية طاقية لا تزال تثقل الميزان.
على الأرض الاجتماعية، تتكثف الضغوط في قطاعات التعليم والصحة والخدمات الأساسية. دعوة الإضراب الوطني يوم 18 سبتمبر، بدعم واسع من المركزيات النقابية، ليست «استعراض قوة» فقط، بل تعبير مباشر عن رفض خطة مالية تُجمِّد الإنفاق الاجتماعي وتوسع قاعدة دافعي الثمن بين المهن الحساسة، مدرِّسين، موظفين عموميين، صيادلة، وعمال المرافق.
كذلك، إضراب مراقبي الحركة الجوية بين 18 و19 سبتمبر، يهدد بإلغاء آلاف الرحلات، أي خسائر مباشرة في النقل والسياحة وسلاسل التوريد، مع ارتدادات على سمعة الوجهة الفرنسية وقدرتها على العمل في لحظات توتر.
في سياق متصل، تتسع رقعة الإضرابات القطاعية (الطاقة، النقل الحضري، بعض مرافق الصحة)، بما يحوِّل الضغط الاجتماعي إلى كلفة اقتصادية فورية ويضع الحكومة في تماسّ مباشر مع الشارع.
سياسيًا، الحكومة الحالية وكما كان متوقعا، تم حجب الثقة فيها، بعدما دخلت إلى البرلمان وهي مثقلة بعزلة حسابية. لا أغلبية واضحة ولا تفاهمات مستقرة، ومعارضة يسارًا ويمينًا ترفض وصفة التقشّف، وتستثمر في تآكل الثقة لتوسيع الرصيد الشعبي. وهنا تتضح معادلة قاسية، كل خطوة تصحيح مالي من دون شبكة أمان اجتماعي كافية، تعني خسارة أصوات جديدة. وكل تراجع عن «الانضباط المالي» يفاقم كلفة التمويل ويستدعي ضغوط الأسواق ووكالات التصنيف. والنتيجة المباشرة، هي شلل تشريعي يحوِّل كل مشروع ميزانية إلى معركة وجود.
الفراغ السياسي والإنهاك الاجتماعي يفتحان الباب، على اتساعه، أمام صعود اليمين المتطرف، الذي يقدم خطابًا بسيطًا وحادا حول الأمن والهوية والهجرة، ويجد في أزمات المعيشة أرضًا خصبة.
علاوة على ذلك، لا يقتصر التشدّد على المعارضة، فداخل الحكومة نفسها كانت تصدر مواقف وإيحاءات صلبة حول ملفات الهجرة والجاليات، يتصدرها وزير الداخلية برونو روتايو بخطاب يميل إلى المقاربة الأمنية ويُشدد على «الصرامة المزعومة» في تطبيق القانون بشكل هزلي يتناقض مع واقع الشارع الفرنسي.
كذلك، تتعرض الجالية الجزائرية في فرنسا بشكل خاص، إلى موجات خطابية تَستخدمها بعض الدوائر كبطاقة إلهاء للتغطية على مأزق اجتماعي واقتصادي، فيما المشكلة الحقيقية في مكان آخر؛ إنتاجية راكدة، استثمار خاص محتشم، سوق عمل يحتاج إصلاحات عميقة تعيد توزيع الحوافز بين العمل ورأس المال، وخدمات عامة تتآكل تحت ضغط الديون.
ما ينتظر فرنسا في الأسابيع المقبلة اختبار صعب، وحتى بعدما سقطت الحكومة تحت قبة البرلمان، لن يبدِّل ذلك حقائق الميدان مع عجز يتطلب معالجة ودين يحتاج مسار استدامة واضحًا، وعُقد اجتماعية لا تُفك بالشعارات. كذلك في نفس السياق، أي سلطة تنفيذية قادمة ستواجه نفس المعضلة: كيف تُخفِّف الإنفاق بلا نسف للعقد الاجتماعي؟ وكيف تُعيد التوازن الخارجي بلا ضرب للطلب الداخلي؟ الإجابات التقنية معروفة في كتب الاقتصاد، لكن كلفتها السياسية تُدفع في الشارع وصناديق الاقتراع.
والنتيجة الأقرب، إذا استمر النهج الحالي، مزيد من القسوة الاجتماعية ومزيد من الاستقطاب ومزيد من المساحات المفتوحة أمام خطاب التطرف الذي يجد في الفوضى فرصة ذهبية.