راودهم الأمل كثيرا في الوصول الى هناك حلموا بالخلاص من شظف العيش والهروب من شبح البطالة والعودة بعد أعوام معدودة الى بلدهم وقد تغيرت أحوالهم وبدت آثار النعمة عليهم لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه خاصة إذا أتت الرياح بما لا تشتهي سفنهم القديمة المتهالكة ، إبتلعهم البحر فعاد من لقي حتفه جثة هامدة وقبع من كتب له النجاة خلف قضبان السجن يندب حظه ويجتر أحزانه
المشهد تراجيدي تماما كأفواج الفراشات المتتابعة التي تلقي بنفسها في النيران المشتعلة رغم أنها ترى بأم العين مصير الأفواج التي سبقتها .اسمه سمير لكن أقرانه ينادونه اسمر. لم يتجاوز منتصف العقد الثاني، لكنه كان يستشعر الأعباء التي تراكمت عليه دفعة واحدة، كانت سيرته طيبة وسط أهله وأقرانه لكنه كلما تأمل وضعه انتابته موجة الكآبة، لأنه يعرف أنه واحد من أولائك الشباب الجزائريين الذين وجدوا أنفسهم في غفلة من الزمن في وضعية استثنائية .لم يجد لنفسه موقعا في عالم التحصيل والمعرفة، غادر كراسي الدراسة وهو يعتقد في قرارة نفسه أنه سيجد موقعا آمنا في سوق العمل، لكن لاشيء من ذلك تحقق ، تفتحت أمامه فكرة الهجرة الى أوربا بشكل لم يتوقعه ، كان يعي صعوبة تحقيق هذا الحلم لكنه بدأ يشعر أنه مقبل على أمر جلل.
هكذا بدأ شهادته قائلا «لم تكن إسبانيا تمثل بالنسبة لي حلما لحل معضلة البطالة التي أعيش شبحها منذ أكثر من عام فقط بل كانت حقيقة أراها منذ بدأت تراودني فكرة الهجرة، التجارب الناجحة لزملائي في الحي كانت تستفزني الكثير منهم وصل إلى بر إسبانيا، وشرع في العمل بل منهم من شرع في إرسال أموال وفيرة لأسرته ، تلكم كانت هواجسه الكبرى أن يصل إلى البر الاسباني ويشرع في العمل، لم يدر بخلده نوعية العمل والمهام التي سيقوم بها، كل ما كان يسعى إليه هو إيجاد المال بأي وسيلة والعمل بجد طوال العام حتى يتمكن من العودة في الصيف وقد حقق بعضا من أحلامه، لم يكن يقبل أن يحقق أقرانه ما أرادوا ويبقى هو على الهامش ولذا ظل يتحين الفرصة إلى أن جاءت في الوقت المناسب.
نداء المجهول
كنت أنظر إلى الساعة كل حين، فبدت عقاربها كأنها في سباق سرعة، ومرت الساعات كأنها دقائق أو ثوان، أذكر أنني ساعة الإفطار أحسست بتخمة في بطني، وجوع شديد في عيني وقلبي، فرحت أتأمل في أفراد عائلتي وهم يأكلون ويتجاذبون أطراف الحديث ويتبادلون الضحكات، وكانت أمي من حين لآخر تدعوني للأكل وتنظر إلى عيني نظرة اشتياق كأنها أحست بقرب ساعة الذهاب، فكنت أتفادى التقاء عينيها بعيني ورحت اختلس النظر إليها ، إذ لم تكف ولو للحظة من النظر إلي... ثم بعد الإفطار خرجت هربا منها إلى الخارج، أين التقيت بصديقي وبصعوبة أخبرته بنيتي وأوصيته أن يخبر أهلي إذا انقطعت أخباري، فحاول جاهدا إقناعي بالعدول عن فكرتي، لكني رفضت الإصغاء إليه، ويا ليتني لم أفعل... تعمدت التأخر في العودة إلى بيتنا لأتفادى لقاء أمي، وحين عدت كان كل من في البيت نياما إلا أمي التي كانت تترصد الباب تحسبا لقدومي دخلت المنزل فوجدتها جالسة تنتظرني عندها عانقتني معانقة لم تعانقني إيها منذ طفولتي وكأن الام أحست بولدها و ما هو مقدم عليه، عندها غلبتني دموعي ولم استطع تمالك نفسي فذرفت دموع سنين من الاشتياق وتوجهت إلى فراشي، ورحت أتقلب ذات اليمين وذات الشمال، بعد أن عجزت عن النوم وأمضيت ليلة بيضاء لن أنساها طول عمري، قمت من فراشي في ساعة متأخرة من الصباح، كانت الساعة حينها حوالي الحادية عشر والنصف أجريت بعض الاتصالات الهاتفية مع رفقائي في الرحلة (المغامرة) وقد قررنا الانطلاق نحو شاطئ الوردانية حوالي الساعة الثانية زوالا لنكمل الرتوشات الأخيرة لرحلتنا، وفي حوالي الساعة الثانية عشرة زوالا، وبعد أن أخذت حماما تعمدت ارتداء ملابس ثقيلة ظنا مني أنها ستقيني من برد مياه البحر، خاصة وأن رحلتنا ستكون في الليل... خرجت من البيت بسرعة كي أتفادى لقاء أمي، لأنني كنت اعرف أن دموعي ستفضحني هذه المرة، كما أنني أكره ساعة الوداع، وتعمدت ترك هاتفي النقال بالبيت كي لا استقبل أي اتصال...
لم أعرف كيف تم التوسط بيني وبين المسؤول عن عمليات التهريب، لكن في لحظة ما وجدت نفسي في الطريق إلى شاطئ الوردانية هناك التقيت مع ١١من الشباب الذين لم التق بهم في السابق، كانت تجمعنا فكرة واحدة هي الوصول إلى الديار الإسبانية، وبالضبط «جزيرة لانزاروتي» كان الجو كئيبا مشحونا بالتساؤلات والخوف من المجهول، متى ستكون الانطلاقة؟ وهل سنصل إلى بر الأمان؟ ومن هذا ومن ذاك؟.
قضينا اليوم الأول على الشاطئ في منطقة نائية بعيدة عن أعين الأمن، لم نتناول خلاله إلا بعضا من الماء والجبن حتى المساء. جاء أناس عرفت فيما بعد أنهم المسؤولون عن الرحلة الريس وأعوانه.
حدد موعد الانطلاق في فجر الغد، تراجع بعض الشبان وعادوا أدراجهم وبقينا ننتظر ساعة الحسم التي تأخرت كثيرا وفهمت فيما بعد أن الوجهة لم تعد «جزيرة لانساروتي» وإنما « جزيرة فوينتي بانتورا» لأنها أقرب الجزر والحراسة الإسبانية فيها تكون متساهلة وفرص العمل فيها قليلة.
في اليوم التالي عاد الريس وأعوانه على سيارة «لاندروفر» حاملا معه ١٢ فردا أخرا.. وجوه جديدة من كل أنحاء الجزائر، وهران، تلمسان، سيدي بلعباس، قسنطينة، عين الدفلى، تيارت، الشلف، غيليزان.. وقيل لنا أن الرحلة الموعودة ستكون بعد العشاء مباشرة، كل يجمع أمتعته الشخصية وبقينا ننتظر لكن الريس وأعوانه كانوا يتدارسون الأمر لوحدهم، في الليلة الثالثة وبعدما بدأ اليأس يتسرب إلينا طلبوا منا فجأة أن نستعد للانطلاقة وكانت الانطلاقة بعد منتصف الليل.
منهم من سرق مجوهرات والدته
أدينا ثمن الرحلة ٨ ملايين سنتيم للفرد الواحد، وكل وطريقته في تحصيله أذكر عندما أخدنا نتجاذب أطراف الحديث وراح كل واحد منا يروي معاناته، وهنا سألته: «أخبرتنا سابقا أنك دفعت تكاليف الرحلة بالمال الذي جمعته من سنين عملك، هل تشترك أنت ورفقاؤك في هذه النقطة؟»، فابتسم وكأنه يسخر من نفسه وقال: «كل الذي جمعته في سنين عملي ذهب مهب الرياح... المهم... ذكرني بسؤالك؟»، فأعدت طرح سؤالي فقاطعني مجيبا: لا، فكل منا كان له مصدره، فمنهم من حصل على المال من أهله، ومنهم من اقترض المبلغ من أصدقائه، ومنهم من لم يفصح عن مصدر أمواله... أذكر أن أحدهم قال أنه سرق مجوهرات والدته ليدفع تكاليف الرحلة وكان يردد أنه حين يصل إلى أوروبا ويستقر هناك سيعوضها بأحسن منها..»
ثم راح يدافع عنهم قائلا: «لو سمعتهم وهم يصفون المعاناة التي يعيشونها لعذرتهم... أنا بدوري دهشت لحجم معاناتهم... هناك أناس يعيشون تحت خط الفقر!!»، ثم سكت وتنهد فقال: «خلينا، لنعد إلى موضوعنا... كما أخبرتك أكلنا سوية، وبقينا ننتظر حلول الساعة الواحدة ليلا، حينها صلينا صلاة المسافر ثم انطلقنا...».
لنجد أنفسنا فوق الماء على متن قارب صغير لا يسعنا جميعا، كنا مكدسين كالسردين المعلب لكن من أجل الوصول إلى البر الآخر كنا مستعدين لهذا وأكثر. وكان يحق لكل واحد منا أن يأخذ معه ٢١ل من الماء وحفنة من التمر باعتبار أنها ستكفينا حتى وصولنا، وانطلقنا بدأت معالم صعوبة الرحلة تتضح، خوف لا يوصف، منا من شرع يتلو القرآن ومنا من خلد إلى الصمت من هول ما يرى، سكون يهز الكون ويرعب القلوب. أنا كنت من الفئة الصامتة، لأني كنت أجهل كل شيء عن البحر، خائف ومرتعش، ولكن لا مكان للخوف الآن والأعمار بيد الخالق.
البحر من أمامنا ومن وراءنا
القارب يشق طريقه بصعوبة وسط الأمواج المتلاطمة، التفت يمنة ويسرة، لم أجد غير الماء وصوت المياه التي تقذف بنا، بدت لي اليابسة بعيدة جدا، وبصعوبة فائقة ألمح بقايا ضوء من بعيد، ظل حالنا هكذا طوال الليل والكل بدأ يتقيأ من دوار البحر والريس « دينو» يصرخ فينا بغلظة ويأمرنا بأن نحافظ على التوازن الدائم للقارب وأحيانا أخرى كان يأمرنا بأن نفرغ مياه البحر الموجودة في القارب.
لم أجد في هذه اللحظات غير الصمت وتنفيذ أوامر الريس لحظات عصيبة، كنت أخال فيها أنني أقرب إلى الموت منه إلى الحياة ١٢ ساعة قضيناها على هذا الحال، وفي المرات القليلة التي يصفو فيها الجو نقتات ببعض الماء. خارت قوانا واستسلمنا لمصيرنا المحتوم وحنكة الريس أشار أحدنا إلى وجود أشياء تلمع من بعيد تبسم الريس وأخبرنا أنها بداية الوصول إلى الديار الإسبانية، حينها شرع الريس في رمي شباك الصيد للتمويه رمى الشبكة وشرع يحركها يمينا وشمالا، بعدما اختار أحدنا ليساعده وأمر البقية بأن تختفي في عمق القارب حتى لا ترصدنا أجهزة خفر السواحل الإسبانية.
بقينا على هذا الحال ونحن ننتظر إشارة الريس حتى المساء، أحسسنا بالقارب يرتطم بشيء صلب رفعنا رؤوسنا وأيقنا أننا وصلنا اليابسة. تنفست الصعداء وحمدت الله على النجاة واستعدت كامل حيويتي وقلت في نفسي «هي ذي البداية في الديار الإسبانية وكل يسير إلى ما قد قدر له».
في قبضة الشرطة الإسبانية
كل واحد من الفتية هرع حاملا أمتعته القليلة باتجاه البر، حينها تكلم الريس بعبارة لن أنساها ما حييت قال: «المسامحة يا أولاد البلاد، والله يكون في عونكم». كل واحد اختار وجهته وتفرقت بنا السبل.
كنا ثلاثة شبان جمعتنا الأقدار ووحدة الهدف مشينا سبعة كيلومترات على الأقدام باتجاه منطقة هي عبارة عن بقايا مدينة قرأت اسمها على بقايا لوحة قديمة فهمُّْد واصلنا المسير إلى أن اقتربنا من المدينة وقضينا الليل وكل واحد منا يتضور جوعا. وفي الصباح تسلل أحدنا إلى أحد الأسواق ليأتينا بشيء نأكله، تذكرت أن آخر وجبة لي كانت ليلة أول أمس.
وبعد قليل جاءنا بأرغفة صغيرة بها لحم خنزير وكوب من اللبن أتينا على الخبز واللبن ثم رمينا باللحم.
إزداد جوعنا خلال ما تبقى من النهار وحينها قررنا المغامرة والدخول إلى المدينة «فويبنتي بانتورا» من أجل أن نقتات بأي شيء ولو كان قليلا، وكان ذلك هو الخطأ الأكبر.
ترصدتنا أعين الشرطة الإسبانية وحاصروا مكان تواجدنا حاولنا الفرار عبر زقاق طويل لكن الوقت كان قد فات.
Tranquillo كانت أول كلمة أسمعها بالإسبانية، سألنا عن جواز السفر وبطاقة الهوية، وكنا قد تخلصنا منها قبل امتطاء القارب قبض علينا، وبعد التحقيق وأخذ المعطيات اللازمة قال المحقق وكان من أصل مغربي «حكومتكم لا تريدكم، وإسبانيا ليست في حاجة إلى خدماتكم» أخذونا إلى السجن، وكان عبارة عن مطار قديم، منحونا سريرا وحقيبة صغيرة بها منشفة ومشط ومعدات الحلاقة وفرشاة أسنان.
بدت أيام السجن الإسباني رتيبة، لكنها كانت أهون من قضاء اليوم في بيت الأهل بدون عمل، حاولت الفرار بكل الطرق لأنني كنت أرفض العودة فاشلا. كلمة الفشل كانت تعتصرني لكن دون جدوى أو ربما هو قدري وعلي تحمله كما كتب لي.
مع توالي الأيام بدأت أتأقلم مع جو السجن هناك تعرفت على الكثير من المهاجرين غير الشرعيين. مغاربة وأفارقة وكان المهاجرون من دولة غينيا ألطفهم كل يوم كانت أفواج جديدة من المهاجرين غير الشرعيين تلتحق بنا وأفواج أخرى تغادر.
ما كان يحز في نفسي أكثر هو أن الشرطة الإسبانية كانت تعامل المهاجرين من أصل أفريقي بطريقة خاصة ومنحت الكثير منهم رخصة مؤقتة للعيش في الجزيرة عكس الجزائريين الذين كانت تتعامل معهم بغلظة واحتقار انتقلت إلى مرحلة جديدة نسجت فيها علاقات جديدة مع حراس السجن، واختاروني لكي أقوم بتوزيع الوجبات على بقية المهاجرين غير الشرعيين، مما خول لي أخذ حصة إضافية.
ولأن جو السجن قاتم وهواجس الترحيل تطاردني يوميا، فقد شرعت في عملية بيع وشراء السجائر إلى أن جاء يوم أسود أخبرني فيه أحد الحراس بأنه تقرر أن يتم ترحيلي مع خمسة شباب آخرين إلى الجزائر.
أخذونا على متن سيارة عسكرية وطوال المسير كنت أمنح لبصري فرصة مشاهدة الأرض والناس عبر النافدة، ولعلي كنت بصدد إلقاء النظرة الأخيرة على جزيرة وددت خالصا لو وجدت فيها بيتا آمنا وفرصة عمل حقيقية وبعد رحلة جوية وجدت نفسي على الحدود الشمالية مع مدينة سبتة ، ومن ثم دخلت التراب الجزائري الى مدينة مغنية وعدت إلى أهلي بعدما قضيت في إسبانيا ٣٠ يوما في ضيافة الشرطة وفي داخلي نداء آخر إلى معانقة تجربة جديدة .
المشهد تراجيدي تماما كأفواج الفراشات المتتابعة التي تلقي بنفسها في النيران المشتعلة رغم أنها ترى بأم العين مصير الأفواج التي سبقتها .اسمه سمير لكن أقرانه ينادونه اسمر. لم يتجاوز منتصف العقد الثاني، لكنه كان يستشعر الأعباء التي تراكمت عليه دفعة واحدة، كانت سيرته طيبة وسط أهله وأقرانه لكنه كلما تأمل وضعه انتابته موجة الكآبة، لأنه يعرف أنه واحد من أولائك الشباب الجزائريين الذين وجدوا أنفسهم في غفلة من الزمن في وضعية استثنائية .لم يجد لنفسه موقعا في عالم التحصيل والمعرفة، غادر كراسي الدراسة وهو يعتقد في قرارة نفسه أنه سيجد موقعا آمنا في سوق العمل، لكن لاشيء من ذلك تحقق ، تفتحت أمامه فكرة الهجرة الى أوربا بشكل لم يتوقعه ، كان يعي صعوبة تحقيق هذا الحلم لكنه بدأ يشعر أنه مقبل على أمر جلل.
هكذا بدأ شهادته قائلا «لم تكن إسبانيا تمثل بالنسبة لي حلما لحل معضلة البطالة التي أعيش شبحها منذ أكثر من عام فقط بل كانت حقيقة أراها منذ بدأت تراودني فكرة الهجرة، التجارب الناجحة لزملائي في الحي كانت تستفزني الكثير منهم وصل إلى بر إسبانيا، وشرع في العمل بل منهم من شرع في إرسال أموال وفيرة لأسرته ، تلكم كانت هواجسه الكبرى أن يصل إلى البر الاسباني ويشرع في العمل، لم يدر بخلده نوعية العمل والمهام التي سيقوم بها، كل ما كان يسعى إليه هو إيجاد المال بأي وسيلة والعمل بجد طوال العام حتى يتمكن من العودة في الصيف وقد حقق بعضا من أحلامه، لم يكن يقبل أن يحقق أقرانه ما أرادوا ويبقى هو على الهامش ولذا ظل يتحين الفرصة إلى أن جاءت في الوقت المناسب.
نداء المجهول
كنت أنظر إلى الساعة كل حين، فبدت عقاربها كأنها في سباق سرعة، ومرت الساعات كأنها دقائق أو ثوان، أذكر أنني ساعة الإفطار أحسست بتخمة في بطني، وجوع شديد في عيني وقلبي، فرحت أتأمل في أفراد عائلتي وهم يأكلون ويتجاذبون أطراف الحديث ويتبادلون الضحكات، وكانت أمي من حين لآخر تدعوني للأكل وتنظر إلى عيني نظرة اشتياق كأنها أحست بقرب ساعة الذهاب، فكنت أتفادى التقاء عينيها بعيني ورحت اختلس النظر إليها ، إذ لم تكف ولو للحظة من النظر إلي... ثم بعد الإفطار خرجت هربا منها إلى الخارج، أين التقيت بصديقي وبصعوبة أخبرته بنيتي وأوصيته أن يخبر أهلي إذا انقطعت أخباري، فحاول جاهدا إقناعي بالعدول عن فكرتي، لكني رفضت الإصغاء إليه، ويا ليتني لم أفعل... تعمدت التأخر في العودة إلى بيتنا لأتفادى لقاء أمي، وحين عدت كان كل من في البيت نياما إلا أمي التي كانت تترصد الباب تحسبا لقدومي دخلت المنزل فوجدتها جالسة تنتظرني عندها عانقتني معانقة لم تعانقني إيها منذ طفولتي وكأن الام أحست بولدها و ما هو مقدم عليه، عندها غلبتني دموعي ولم استطع تمالك نفسي فذرفت دموع سنين من الاشتياق وتوجهت إلى فراشي، ورحت أتقلب ذات اليمين وذات الشمال، بعد أن عجزت عن النوم وأمضيت ليلة بيضاء لن أنساها طول عمري، قمت من فراشي في ساعة متأخرة من الصباح، كانت الساعة حينها حوالي الحادية عشر والنصف أجريت بعض الاتصالات الهاتفية مع رفقائي في الرحلة (المغامرة) وقد قررنا الانطلاق نحو شاطئ الوردانية حوالي الساعة الثانية زوالا لنكمل الرتوشات الأخيرة لرحلتنا، وفي حوالي الساعة الثانية عشرة زوالا، وبعد أن أخذت حماما تعمدت ارتداء ملابس ثقيلة ظنا مني أنها ستقيني من برد مياه البحر، خاصة وأن رحلتنا ستكون في الليل... خرجت من البيت بسرعة كي أتفادى لقاء أمي، لأنني كنت اعرف أن دموعي ستفضحني هذه المرة، كما أنني أكره ساعة الوداع، وتعمدت ترك هاتفي النقال بالبيت كي لا استقبل أي اتصال...
لم أعرف كيف تم التوسط بيني وبين المسؤول عن عمليات التهريب، لكن في لحظة ما وجدت نفسي في الطريق إلى شاطئ الوردانية هناك التقيت مع ١١من الشباب الذين لم التق بهم في السابق، كانت تجمعنا فكرة واحدة هي الوصول إلى الديار الإسبانية، وبالضبط «جزيرة لانزاروتي» كان الجو كئيبا مشحونا بالتساؤلات والخوف من المجهول، متى ستكون الانطلاقة؟ وهل سنصل إلى بر الأمان؟ ومن هذا ومن ذاك؟.
قضينا اليوم الأول على الشاطئ في منطقة نائية بعيدة عن أعين الأمن، لم نتناول خلاله إلا بعضا من الماء والجبن حتى المساء. جاء أناس عرفت فيما بعد أنهم المسؤولون عن الرحلة الريس وأعوانه.
حدد موعد الانطلاق في فجر الغد، تراجع بعض الشبان وعادوا أدراجهم وبقينا ننتظر ساعة الحسم التي تأخرت كثيرا وفهمت فيما بعد أن الوجهة لم تعد «جزيرة لانساروتي» وإنما « جزيرة فوينتي بانتورا» لأنها أقرب الجزر والحراسة الإسبانية فيها تكون متساهلة وفرص العمل فيها قليلة.
في اليوم التالي عاد الريس وأعوانه على سيارة «لاندروفر» حاملا معه ١٢ فردا أخرا.. وجوه جديدة من كل أنحاء الجزائر، وهران، تلمسان، سيدي بلعباس، قسنطينة، عين الدفلى، تيارت، الشلف، غيليزان.. وقيل لنا أن الرحلة الموعودة ستكون بعد العشاء مباشرة، كل يجمع أمتعته الشخصية وبقينا ننتظر لكن الريس وأعوانه كانوا يتدارسون الأمر لوحدهم، في الليلة الثالثة وبعدما بدأ اليأس يتسرب إلينا طلبوا منا فجأة أن نستعد للانطلاقة وكانت الانطلاقة بعد منتصف الليل.
منهم من سرق مجوهرات والدته
أدينا ثمن الرحلة ٨ ملايين سنتيم للفرد الواحد، وكل وطريقته في تحصيله أذكر عندما أخدنا نتجاذب أطراف الحديث وراح كل واحد منا يروي معاناته، وهنا سألته: «أخبرتنا سابقا أنك دفعت تكاليف الرحلة بالمال الذي جمعته من سنين عملك، هل تشترك أنت ورفقاؤك في هذه النقطة؟»، فابتسم وكأنه يسخر من نفسه وقال: «كل الذي جمعته في سنين عملي ذهب مهب الرياح... المهم... ذكرني بسؤالك؟»، فأعدت طرح سؤالي فقاطعني مجيبا: لا، فكل منا كان له مصدره، فمنهم من حصل على المال من أهله، ومنهم من اقترض المبلغ من أصدقائه، ومنهم من لم يفصح عن مصدر أمواله... أذكر أن أحدهم قال أنه سرق مجوهرات والدته ليدفع تكاليف الرحلة وكان يردد أنه حين يصل إلى أوروبا ويستقر هناك سيعوضها بأحسن منها..»
ثم راح يدافع عنهم قائلا: «لو سمعتهم وهم يصفون المعاناة التي يعيشونها لعذرتهم... أنا بدوري دهشت لحجم معاناتهم... هناك أناس يعيشون تحت خط الفقر!!»، ثم سكت وتنهد فقال: «خلينا، لنعد إلى موضوعنا... كما أخبرتك أكلنا سوية، وبقينا ننتظر حلول الساعة الواحدة ليلا، حينها صلينا صلاة المسافر ثم انطلقنا...».
لنجد أنفسنا فوق الماء على متن قارب صغير لا يسعنا جميعا، كنا مكدسين كالسردين المعلب لكن من أجل الوصول إلى البر الآخر كنا مستعدين لهذا وأكثر. وكان يحق لكل واحد منا أن يأخذ معه ٢١ل من الماء وحفنة من التمر باعتبار أنها ستكفينا حتى وصولنا، وانطلقنا بدأت معالم صعوبة الرحلة تتضح، خوف لا يوصف، منا من شرع يتلو القرآن ومنا من خلد إلى الصمت من هول ما يرى، سكون يهز الكون ويرعب القلوب. أنا كنت من الفئة الصامتة، لأني كنت أجهل كل شيء عن البحر، خائف ومرتعش، ولكن لا مكان للخوف الآن والأعمار بيد الخالق.
البحر من أمامنا ومن وراءنا
القارب يشق طريقه بصعوبة وسط الأمواج المتلاطمة، التفت يمنة ويسرة، لم أجد غير الماء وصوت المياه التي تقذف بنا، بدت لي اليابسة بعيدة جدا، وبصعوبة فائقة ألمح بقايا ضوء من بعيد، ظل حالنا هكذا طوال الليل والكل بدأ يتقيأ من دوار البحر والريس « دينو» يصرخ فينا بغلظة ويأمرنا بأن نحافظ على التوازن الدائم للقارب وأحيانا أخرى كان يأمرنا بأن نفرغ مياه البحر الموجودة في القارب.
لم أجد في هذه اللحظات غير الصمت وتنفيذ أوامر الريس لحظات عصيبة، كنت أخال فيها أنني أقرب إلى الموت منه إلى الحياة ١٢ ساعة قضيناها على هذا الحال، وفي المرات القليلة التي يصفو فيها الجو نقتات ببعض الماء. خارت قوانا واستسلمنا لمصيرنا المحتوم وحنكة الريس أشار أحدنا إلى وجود أشياء تلمع من بعيد تبسم الريس وأخبرنا أنها بداية الوصول إلى الديار الإسبانية، حينها شرع الريس في رمي شباك الصيد للتمويه رمى الشبكة وشرع يحركها يمينا وشمالا، بعدما اختار أحدنا ليساعده وأمر البقية بأن تختفي في عمق القارب حتى لا ترصدنا أجهزة خفر السواحل الإسبانية.
بقينا على هذا الحال ونحن ننتظر إشارة الريس حتى المساء، أحسسنا بالقارب يرتطم بشيء صلب رفعنا رؤوسنا وأيقنا أننا وصلنا اليابسة. تنفست الصعداء وحمدت الله على النجاة واستعدت كامل حيويتي وقلت في نفسي «هي ذي البداية في الديار الإسبانية وكل يسير إلى ما قد قدر له».
في قبضة الشرطة الإسبانية
كل واحد من الفتية هرع حاملا أمتعته القليلة باتجاه البر، حينها تكلم الريس بعبارة لن أنساها ما حييت قال: «المسامحة يا أولاد البلاد، والله يكون في عونكم». كل واحد اختار وجهته وتفرقت بنا السبل.
كنا ثلاثة شبان جمعتنا الأقدار ووحدة الهدف مشينا سبعة كيلومترات على الأقدام باتجاه منطقة هي عبارة عن بقايا مدينة قرأت اسمها على بقايا لوحة قديمة فهمُّْد واصلنا المسير إلى أن اقتربنا من المدينة وقضينا الليل وكل واحد منا يتضور جوعا. وفي الصباح تسلل أحدنا إلى أحد الأسواق ليأتينا بشيء نأكله، تذكرت أن آخر وجبة لي كانت ليلة أول أمس.
وبعد قليل جاءنا بأرغفة صغيرة بها لحم خنزير وكوب من اللبن أتينا على الخبز واللبن ثم رمينا باللحم.
إزداد جوعنا خلال ما تبقى من النهار وحينها قررنا المغامرة والدخول إلى المدينة «فويبنتي بانتورا» من أجل أن نقتات بأي شيء ولو كان قليلا، وكان ذلك هو الخطأ الأكبر.
ترصدتنا أعين الشرطة الإسبانية وحاصروا مكان تواجدنا حاولنا الفرار عبر زقاق طويل لكن الوقت كان قد فات.
Tranquillo كانت أول كلمة أسمعها بالإسبانية، سألنا عن جواز السفر وبطاقة الهوية، وكنا قد تخلصنا منها قبل امتطاء القارب قبض علينا، وبعد التحقيق وأخذ المعطيات اللازمة قال المحقق وكان من أصل مغربي «حكومتكم لا تريدكم، وإسبانيا ليست في حاجة إلى خدماتكم» أخذونا إلى السجن، وكان عبارة عن مطار قديم، منحونا سريرا وحقيبة صغيرة بها منشفة ومشط ومعدات الحلاقة وفرشاة أسنان.
بدت أيام السجن الإسباني رتيبة، لكنها كانت أهون من قضاء اليوم في بيت الأهل بدون عمل، حاولت الفرار بكل الطرق لأنني كنت أرفض العودة فاشلا. كلمة الفشل كانت تعتصرني لكن دون جدوى أو ربما هو قدري وعلي تحمله كما كتب لي.
مع توالي الأيام بدأت أتأقلم مع جو السجن هناك تعرفت على الكثير من المهاجرين غير الشرعيين. مغاربة وأفارقة وكان المهاجرون من دولة غينيا ألطفهم كل يوم كانت أفواج جديدة من المهاجرين غير الشرعيين تلتحق بنا وأفواج أخرى تغادر.
ما كان يحز في نفسي أكثر هو أن الشرطة الإسبانية كانت تعامل المهاجرين من أصل أفريقي بطريقة خاصة ومنحت الكثير منهم رخصة مؤقتة للعيش في الجزيرة عكس الجزائريين الذين كانت تتعامل معهم بغلظة واحتقار انتقلت إلى مرحلة جديدة نسجت فيها علاقات جديدة مع حراس السجن، واختاروني لكي أقوم بتوزيع الوجبات على بقية المهاجرين غير الشرعيين، مما خول لي أخذ حصة إضافية.
ولأن جو السجن قاتم وهواجس الترحيل تطاردني يوميا، فقد شرعت في عملية بيع وشراء السجائر إلى أن جاء يوم أسود أخبرني فيه أحد الحراس بأنه تقرر أن يتم ترحيلي مع خمسة شباب آخرين إلى الجزائر.
أخذونا على متن سيارة عسكرية وطوال المسير كنت أمنح لبصري فرصة مشاهدة الأرض والناس عبر النافدة، ولعلي كنت بصدد إلقاء النظرة الأخيرة على جزيرة وددت خالصا لو وجدت فيها بيتا آمنا وفرصة عمل حقيقية وبعد رحلة جوية وجدت نفسي على الحدود الشمالية مع مدينة سبتة ، ومن ثم دخلت التراب الجزائري الى مدينة مغنية وعدت إلى أهلي بعدما قضيت في إسبانيا ٣٠ يوما في ضيافة الشرطة وفي داخلي نداء آخر إلى معانقة تجربة جديدة .