شيّــد منــذ آلاف السنــين ومـا يــزال محافظـا علـى شكلــه

سرداب سانت كريسبين.. تُحفة أثرية في طيّ النسيان

تبسة: سمية عليان

 

تزخر ولاية تبسة بحوالي 2500موقع أثري، ما يجعلها تحتل المرتبة الأولى وطنيا من حيث كمية ونوعية المعالم الأثرية، وبحسب المواقع، لديها 27 موقعا مصنفا ضمن التراث الوطني، بالإضافة إلى مواقع أخرى سجلت ضمن الجرد الإضافي، ومن بين هذه الآثار التي تعتبر تحفا فنية أثرية، ولغزا من ألغاز التاريخ، تتميز بتصميمها المعماري الفريد وتحمل رمزية دينية، كما تُعتبر وجهة مهمة للباحثين والمهتمين بالتاريخ والآثار، “سراديب بازيليك سانت كريسبين”.

 يعتبر وسط مدينة تبسة شاهدا تاريخيا على تعاقب الحضارات القديمة، وكل زائر للمدينة يكتشف سحرا مميزا من طراز المدن الأثرية العالمية، حيث تضاهي أقدم المعالم التاريخية في القارات الخمس.
«قوس كركلا”.. المخرج الرئيسي للسور البيزنطي، يضفي جمالا طبيعيا على المدينة، ويكشف عن صموده لقرون طويلة في وجه المتغيرات الطبيعية والإجرام المنظم، لا يزال شامخا يعانق تاريخ تيفاست القديمة وتبسة الجديدة منذ القرن الثالث الميلادي، إضافة إلى “معبد ليبازيلك” الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع، ينتظر منذ مدة طويلة احتضان تظاهرة فنية وطنية أو عالمية، يرافقه أمل التبسيين في استرجاع بريق الحضارات القديمة بمدرجات المسرح الروماني الذي يتعرض للتدهور يوميا بالرغم من تحرك الوصاية في عمليات التنظيف والتسييج..
في عجالة، نعرّج على موقع “تبسة الخالية” بأعالي منطقة الميزاب الذي شيد قبل العاصمة “لامباز” في تاموقادي تيمقاد ولاية باتنة حاليا في القرن 69 ميلادي، ومعبد “مينارف” الذي حوّل سنة 1920 إلى متحف، ومنطقة “قسطل” ببلدية عين الزرقاء و«معصرة الزيتون القديمة”ببرزقان بالماء الأبيض و«وادي الجبانة” ببئر العاتر، لتشكل المواقع الأثرية، ومنها “الهناشير” 54 نقطة مصنفة وطنيا وأخرى في قائمة الجرد الإضافي على مستوى مجموع 28 بلدية بالولاية تنتظر عملية التصنيف.
حاجة ماسّة إلى التفاتة فعلية
شهدت السنوات الأولى من الاستقلال إلى غاية سنة 2000 محطات إهمال خطيرة للعديد من المواقع الأثرية بولاية تبسة، وخاصة خلال فترة العشرية السوداء التي عرفت توسعا كبيرا لشبكات نهب التحف وتهريب الآثار.
 تملك تبسة أكثر من ألفي موقع أثرى ما يجعلها تحتل المرتبة الأولى وطنيا من حيث كمية ونوعية المعالم الأثرية، إلا أن معظمها عرضة للإهمال بسبب طبيعة هذه الآثار التي تتزاوج والنسيج العمراني للمدينة، ما يجعل العنصر البشري السبب الأهم في تدمير هذا الموروث التاريخي، الشاهد على تعاقب الحضارات المختلفة على هذه المدينة العريقة ويستوجب التفاتة فعلية للجهات الوصية.
 شيد البازيليك في القرن الرابع ميلادي وما يميزه أبراج المراقبة، وأربع كنائس، إضافة إلى “سرداب سانت كريستين” أو ما يعرف بـ«الكاتاكومب”، ونظرا لأهمية هذا الموقع الكبير تم تصنيفه ضمن التراث الوطني، حيث يعمل الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات على تجسيد المشروع الخاص بإعادة الاعتبار لهذا الموقع من خلال التأمين والتنظيف، وكذا التوعية والتحسيس.
 وفي ذات الصدد انطلقت منذ سنة 2015 مشاريع هامة لتهيئة محيط السور البيزنطي بوسط مدينة تبسة وساحة النصر “كور كارنو”، من خلال عملية سمحت بالكشف عن مقومات جمالية للمكان، لاقت استحسانا كبيرا للسكان وكان عامل جذب للزوار.
 سراديب سانت كرسبين.. هندسة فريدة
 يقع سرداب سانت كرسبين بالموقع الأثري البازيليك بتبسة على بعد 460 متر من السور البيزنطي وقوس النصر كركلا، شيد السرداب في القرن الثاني للميلاد، فيما يقول بعض المؤرخين انه أنجز في الفترة البيزنطية، يمتد على طول 200 متر بارتفاع 1.5 متر وبعمق 9 أمتار تحت الأرض.
بازيليكسانت كريسبين، المعروفة أيضًا بـ«كنيسة القديسة كريسبينا”، تقع في مدينة تبسة، تُحيط بها أسوار رباعية الأضلاع، وتضم مجموعة من المباني التي تشكل ديرًا وسراديب داخلية، بالإضافة إلى إسطبلات، أروقة، باحة، وكنيسة مع ملحقاتها.
الملاحظ في سرداب سانت كريسبين أنه أنجز بطريقة مقوسة، وذلك لتحمل الثقل الموجود فوق السرداب، حيث فكر الأشخاص الذين أنجزوا هذه السراديب في المادة التي يصنع منها والتي يغلف بها السرداب، وهي الطين المقوى بالحجارة، ما أعطى للجدران والسقف صلابة وأمان، والدليل على نجاعة هذه الهندسة هو انعدام أي انهيارات على طول السرداب بعد أكثر من 2000 سنة من إنجازه.
حكاية السرداب..
يُعتقد أن السرداب ارتبط بحياة القديسة كريسبينا التي تعتبر شهيدة مسيحية من العصر الروماني، عُرفت بتضحيتها من أجل إيمانها، لذلك يمثل السرداب مكانًا مقدسًا يخلد ذكرى الإيمان والصبر في مواجهة الاضطهاد، كما كان الموقع ملتقى دينيا ومركزًا للعبادة والتجمع للمسيحيين في العصور القديمة، خاصة خلال الفترات التي كانت فيها المسيحية تُمارس سرًا بسبب الاضطهاد.
وقد أثبتت الدراسات والنقاشات عدم وجود أي إشكالية في اختيار الأرضية لبناء البازيليك في القرن الرابع ميلادي، حيث تم مباشرة بناء الكنيسة فوق السراديب التي كان لها بعد روحي آنذاك، ففي القرن الثاني والثالث ميلادي كانت هذه الأماكن مخصصة لنشر الديانة المسيحية، ومن المعروف وقوع ضحايا في سبيل نشرها في ذلك الوقت، ومنهم القديسة كريسبين وقبلها بثمان سنوات الفارس “ماكسمليانو” من أبناء تبسة الذي تم قتله وصلبه.
وبحسب اعتقادهم - في ذلك الزمان - كان المكان مناسبا للتأمل والروحانية ويخلق جوا من السكينة، كما كان التصميم المعماري للسرداب، بما فيه من ممرات ضيقة وأقبية حجرية، يُهيئ أجواء ملائمة للتأمل والصلاة، ما يجعله مكانًا مثاليًا للتقرب الروحي، فسرداب سانت كريسبين ليس مجرد معلم أثري، بل هو فضاء يحمل عبق التاريخ والإيمان. أهميته الروحية تتجاوز الزمان والمكان، حيث يُلهم القيم الإنسانية العليا ويعزز التواصل بين الثقافات والأديان.
سرداب في طيّ النسيان
تم اكتشاف هذا السرداب خلال فترة الاستعمار الفرنسي سنة 1944 ووجدوا بأنها سراديب وأماكن للعبادة في ذات الوقت، أين عثروا على أول مكان للعبادة بوسط السرداب وهو عبارة عن صليب وبه مكان قربان، ومن خلال البحث وجدوا عائلة مدفونة يرجح أن تكون لعائلة حاكمة اعتنقت المسيحية.
وبعد فتح السرداب الذي يبلغ طوله حوالي 200 متر عثروا في أخره على خمس قبور لخمسة نساء، من بينهن القديسة كريسبين ورغم أنه لم يتم إعدامها في هذا المكان، بل أعدمت في فورم تبسة، إلا أنه تم نقل جثمانها ودفنها في السرداب.
 استراتيجية لتثمين السرداب كمنتوج سياحي
 تم اكتشاف السرداب سنة 1944، إلا أنه بقي مغلقا ومسدودا ولم يتم التصرف فيه خاصة خلال العشرية السوداء، ليتم فيما بعد وضع استراتيجية وتصورا جديدا لتثمين هذا الموقع وتحويله لمنتوج سياحي من طرف وزارة الثقافة والسياحة.
وفي السياق، تم جلب خبراء لمعرفة طبيعة الموقع وهل يمكن للزوار استغلال هذا المكان حفاظا على سلامتهم، وأول ما لاحظه الخبراء أنه لا يوجد أي انهيارات بالموقع رغم مرور آلاف السنين على انجازه، بفضل اختيار نوعية الأرضية لحفره، ففتح هذا المعلم مرهون بإتمام الإجراءات التقنية الخاصة بهذه العملية من ناحية التأمين والإضاءة وإعداد كل التجهيزات الخاصة، ليتوفر هذا المعلم على كامل المواصفات المعمول بها لاستقطاب الزوار.ولتثمين سرداب سانت كريسبين بمدينة تبسة كمنتوج سياحي، يمكن اعتماد استراتيجية شاملة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد التاريخية والثقافية والاقتصادية، بما في ذلك دراسة وتقييم الموقع بإجراء تقييم معمق لحالة السرداب من الناحية المعمارية والأثرية، وتقييم درجة التآكل وأثر الزمن، وتحديد التدخلات اللازمة لترميم الموقع، وإعداد ملف تاريخي شامل وتوثيق قيمته الثقافية والعمرانية. فتأمينه وتهيئته وفتحه أمام الزوار سيكون قفزة نوعية وخطوة مهمة في تاريخ تسيير المواقع الأثرية على مستوى الوطن، وذلك لانفراد هذا النوع ببازليك تبسة، حيث يوجد سراديب في مواقع أثرية أخرى عبر التراب الوطني لكن ليس بطول سرداب سانت كريسبين وخصوصيته وطريقة انجازه ومواصفاته، بحسب ما أفاد به الخبراء.
 الترويج الإعلامي للسياحة الثقافية..
 يجمع المختصون في الاقتصاد السياحي أن الإعلام الترويجي للسياحة الثقافية ومنها المواقع الأثرية هو العمود الفقري لعرض وفرض جاذبية هذه المقومات المهملة، على خلفية ضعف فظيع في سياسة الإعلام السياحي بجميع صيغه، سيما منها الملتقيات والتواصل الذي يعتمد التكنولوجيات الحديثة في الاتصال، بحيث غابت تظاهرات عرض هذه الإمكانات الهائلة لبعث طريق الاقتصاد الثالث بعد الفلاحة والبترول.
 ويبدو اليوم أنه من الأهمية أن تتحرك الجهات المعنية لتطوير وسائل وتقنيات الحماية والرفع من مستوى التغطية الأمنية، وتفعيل دور المجتمع المدني لتبني قناعة اعتبار الموروث الحضاري من ذاكرة الأمة، ويشكل أحد مقومات الاقتصاديات العالمية المتطورة التي تعتمد السياحة الثقافية عمودا فقريا في تحقيق تنمية مستدامة، من أجل مخطط صلب وجدار منيع في الحفاظ على ذاكرة الأمة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19737

العدد 19737

السبت 29 مارس 2025
العدد 19736

العدد 19736

الجمعة 28 مارس 2025
العدد 19735

العدد 19735

الأربعاء 26 مارس 2025
العدد 19734

العدد 19734

الثلاثاء 25 مارس 2025