يقتضي التوازن بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية

هكــــــــــــــــذا يشتغــــــــــــــل «المجتمــــــــــــع الجديــــــــــــد للمعرفـــــــــــــة»..

سليمان.ج

 

في عالم يُعاد تشكيله تحت وطأة الثورة الرقمية وتسارع التحوّلات التكنولوجية، لم تعد مفاهيم الاقتصاد التقليدي كافية لفهم مآلات النمو والتنمية. هذا ما يسعى جوزيف ستيغليتز وبروس غرينوالد إلى تفكيكه وتحليله في كتابهما «المجتمع الجديد للمعرفة»، حيث يتصدر سؤال جوهري المشهد: من يتحكم في المعرفة؟ ومن يقرر كيفية توزيعها واستثمارها؟


الكتاب لا يقدم أطروحة جديدة بقدر ما يُعيد مساءلة الأسس التي بُني عليها النموذج الليبرالي المعتمد على آليات السوق وحدها، في هذا السياق، لا يتردد المؤلفان في قلب كثير من المسلّمات التي ظلت راسخة في أذهان الاقتصاديين وصنّاع القرار، وفي مقدمتها الافتراض الشائع بأن المنافسة تؤدي تلقائيًا إلى الابتكار. هذا الربط الساذج بين التنافس والإبداع، يراه المؤلفان اختزالًا مخلًّا بتعقيد ديناميكيات السوق المعرفية، فالمنافسة، كما يؤكدان، لا تفضي دائمًا إلى بيئة محفزة على الابتكار. بل على العكس، قد تؤدي إلى تقليص حوافز الاستثمار في البحث والتطوير، خصوصًا عندما تتوزع السوق على عدد كبير من الشركات التي لا تستطيع تحقيق وفورات الحجم أو استرجاع كلفة الابتكار.
يقول المؤلفان إن «النموذج الكلاسيكي من نوع كورنو يُظهر بوضوح أن ازدياد عدد الشركات في السوق يؤدي إلى تراجع مستويات الابتكار»، والسبب في ذلك أن الربحية الفردية المحتملة لأي استثمار معرفي تتناقص، مما يُضعف جاذبية المخاطرة.
من هنا، تصبح العلاقة بين المنافسة والابتكار أكثر تركيبًا مما توحي به النماذج الاقتصادية المبسطة. ففي بعض السياقات، كما في حالة نمط «بيرتراند» حيث تتنافس الشركات عبر الأسعار، قد تُفضي المنافسة إلى نتائج مختلفة تمامًا.
إذا كان المبتكر يعلم أنه سيحصل على حصة أكبر من السوق بسبب قدرته على تقليل الأسعار بفضل اختراعه، فإن حافزه على الابتكار يزداد. لكن حتى في هذه الحالة، يحذر المؤلفان من أن «زيادة العوائد الحدية لا تعني بالضرورة ارتفاع العوائد المتوسطة»، وهو ما يؤدي إلى صعوبات تمويلية خاصة في سياقات تعاني من هشاشة النظام المصرفي أو غياب رأس المال المخاطر.
في مواجهة هذه المفارقات، يتعين إعادة النظر في السياسة العامة تجاه الملكية الفكرية. فرغم أنها تُبرّر غالبًا بحجة تحفيز الابتكار، إلا أن تشديد نظام البراءات لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج إيجابية على مستوى الابتكار الاجتماعي، بالعكس، قد يقود إلى احتكار المعرفة وتقييد تدفقها، مما يعمق الفجوة بين الشركات الكبرى المسيطرة على التكنولوجيا، وباقي الفاعلين الاقتصاديين. ويرى المؤلفان أن «نظام الملكية الفكرية الصارم قد يُضعف وتيرة الابتكار رغم تعزيز الحوافز الفردية».
واحدة من أهم الملاحظات التي يقدّمها الكتاب تتعلق بمحدودية السوق في تخصيص الموارد النادرة المرتبطة بالمعرفة. فالمعرفة، بخلاف السلع المادية، تتميز بطابعها غير التنافسي وغير الاستبعادي، ما يعني أن استهلاكها من طرف شخص لا يمنع استهلاكها من طرف آخر، وأنه يصعب حصر الانتفاع بها في يد جهة واحدة..هذا ما يجعل قوى السوق غير قادرة، بنيويًا، على تنظيم هذا المورد الحيوي بكفاءة، ما لم يتدخل الفاعل العمومي، ويؤكد المؤلفان في هذا الصدد: «إذا تُرك الاقتصاد السوقي لنفسه، فإنه يُسيء تخصيص موارده الخاصة بالابتكار».
إن أحد الأبعاد الحاسمة في الكتاب هو الدعوة الصريحة إلى استعادة الدولة لدورها كمحفّز للابتكار، لا مجرد مراقب للسوق، ففي سياق التحولات الكبرى، تصبح الدولة مطالبة بوضع سياسة عمومية تؤسس لما يسميه المؤلفان «اقتصاد التعلّم»، حيث يتم الاستثمار في رأس المال البشري، وتوفير بيئة مؤسساتية تسمح بتوليد المعرفة وتقاسمها، ولا يتعلق الأمر بتأميم المعرفة، بل بتوفير البنية التحتية القانونية والتقنية والاجتماعية التي تتيح تدفقها وتحويلها إلى أداة للعدالة والتنمية.
ومن هذا المنطلق، تنتقد فصول الكتاب التواطؤ غير المعلن بين الشركات الكبرى وبعض السياسات العمومية التي تُكرّس احتكار المعرفة، ويستشهد المؤلفان بحالة شركة مايكروسوفت التي لجأت - حسب تعبيرهما - إلى سلوكيات احتكارية هدفت إلى تقويض المنافسين، ولو على حساب تراجع الابتكار..يقولان: «سلوك مايكروسوفت كان رسالة واضحة لكل منافس محتمل: نحن نملك القدرة والإرادة لقتل أي محاولة دخول إلى السوق، حتى لو كلفنا ذلك خسائر قصيرة الأمد».
هذه التجربة ليست معزولة، بل تكشف حدود المنطق الليبرالي حين يتعامل مع المعرفة كسِلعة، ويتجاهل طابعها المشترك، ولهذا، لا يتردد المؤلفان في مساءلة فعالية نظم المنافسة التقليدية، والدعوة إلى تصميم جديد للسياسات الاقتصادية، يقوم على مبدأ العدالة المعرفية.
الهدف إذن ليس فقط تعظيم الابتكار، بل إعادة توجيهه نحو الصالح العام، فالكثير من الابتكارات، رغم طابعها التقني المتقدّم، لا تُترجم إلى منافع اجتماعية ملموسة، وقد تكون مدفوعة بحوافز ربحية محضة، تُقصي الفئات الهشة أو تُعمق الفوارق. من هنا تتضح الحاجة إلى سياسة ابتكار عمومية، تُقيم توازنًا بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
إن فكرة «اقتصاد التعلّم»، التي تشكل أحد أعمدة الكتاب، لا تعني فقط إنتاج المعرفة، بل تدور حول القدرة الجماعية على التعلّم، وتكييف المؤسسات، وتبادل الخبرات، وبناء نظم تربوية ومهنية مرنة. وهذا يتطلب تحولًا هيكليًا في الثقافة السياسية والاقتصادية، يرتكز على تنمية القدرات المؤسسية وتحفيز الإبداع من القاعدة نحو القمة.
وفي فصل مهم من الكتاب، يشير المؤلفان إلى أن «التفاوت في القدرات على إنتاج المعرفة واستيعابها هو أحد المحركات الأساسية لعدم المساواة بين الأمم»، فالتحولات الاقتصادية المعاصرة لم تعد محكومة فقط بتدفقات رأس المال أو حجم الموارد الطبيعية، بل أصبحت ترتبط بقدرة المجتمعات على إنتاج واستخدام المعرفة بطريقة استراتيجية. لذا، فإن اقتصاد التعلّم ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية للمجتمعات الساعية إلى الاستقلال والتقدم.
كما يتوقف الكتاب مطولًا عند إشكالية التعليم، ليس فقط بوصفه خدمة اجتماعية، بل كرافعة استراتيجية لبناء مجتمع المعرفة، فالتعليم لا يجب أن يُختزل في منظومة تلقينية تقليدية، بل يجب أن يُعاد تصميمه كمسار ديناميكي يُنمّي ملكات النقد والتفكير المستقل، ويحفّز على التجريب والمبادرة. وهنا تبرز الحاجة إلى إصلاح تربوي عميق، يتجاوز مجرد تحديث المناهج نحو بناء بيئة تعلمية منفتحة ومتجددة.
أخيرًا، ينبه المؤلفان إلى أن هيمنة منطق السوق على المعرفة يُفضي إلى «تجويف السياسة»، حيث تصبح السياسات العمومية رهينة لمصالح الشركات الكبرى، وتتراجع القدرة الجماعية على رسم توجهات استراتيجية بديلة. لذا، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في توليد المعرفة، بل في استرجاع السيطرة الديمقراطية عليها، وضمان أن تظل أداة في خدمة الجميع، لا وسيلة لترسيخ الهيمنة.
ولا يسعى الكتاب إلى تقديم وصفات جاهزة بقدر ما يُحفّز على إعادة التفكير في البديهيات. فإذا كانت المعرفة هي المورد الأساسي للنمو في القرن الحادي والعشرين، فإن مستقبل المجتمعات لن يُبنى إلا عبر إعادة توزيع هذا المورد على أسس أكثر عدالة وفعالية. هذا التحدي، كما يبيّنه ستيغليتز وغرينوالد، ليس تقنيًا فقط، بل هو أيضًا سياسي وأخلاقي بامتياز.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19838

العدد 19838

الجمعة 01 أوث 2025
العدد 19837

العدد 19837

الخميس 31 جويلية 2025
العدد 19836

العدد 19836

الأربعاء 30 جويلية 2025
العدد 19835

العدد 19835

الثلاثاء 29 جويلية 2025