موطن العلم والعلماء وأرض الهواء والنّماء

مليانـــــــــــــة..حاضـــــــرة مــــــــــــــدن شمـــــــــــــال إفريقيــــــــــا

بلال لعريبي جامعة البليدة

 

 تعد المعلومات التي أفردتها كتب الجغرافيا والرحلة لبلاد المغرب الأوسط عموما ولمدينة مليانة على وجه الخصوص ذات فائدة كبيرة، حيث نجد بها نصوصا مطولة عن الجوانب العمرانية والطبيعية والجغرافية نستطيع من خلالها إبراز التطور الذي عرفته هذه المدينة خلال العصر الوسيط باعتباره تحتوي على مادة تاريخية تمس بصفة مباشرة الحياة العامة للسكان ونمط معيشتهم، من بين الأوصاف التي أعطتها كتب الجغرافيا لمدينة مليانة نذكر ما أورده ابن حوقل في كتابه صورة الأرض، وما جاء في كتابات البكري عن مؤسس هذه المدينة ومجددها خلال العصر الوسيط.


 غير أنّ الكتابات الحديثة والمعاصرة وبعض الحفريات التي أجريت بقرب من المدينة أواخر القرن 13هـ / 19م، أكّدت على وجود مدينتين هما منليانة وزوقبار، وجاء ذكر اسم مليانة في سجل المحاضرة الأسقفية بقرطاجة عام 489م، حيث ورد اسم احد اساقفتها مليانة فكتور، وكشفت بعض التنقيبات على قبر قرب المدينة عان 1265هـ/ 1849م حمل اسم منليا بنت لوكسيوس.
المعلومات القيمة في كتاب الاستبصار لمؤلف مجهول، كما ورد ذكرها في العديد من نصوص المعاجم الجغرافية مثلما كتبه ياقوت الحموي في قاموسه معجم البلدان، وما جمعه الحميري في معجمه الروض المعطار في خبر الأقطار من جهة أخرى، تحدثت العديد من كتب الرحلة عن مدينة مليانة التي غالبا ما تقع على طريق رحلة الحجيج المار بالمغرب الأوسط، حيث يرد ذكر هذه المدينة في الرحلة المغربية للعبدري والتي توضح - ولو بطريقة غير مباشرة - الموقع الهام الذي تحتله هذه المدينة في طريق الحج، وما تقدمه من أوصاف لها باعتبارها إحدى محطات هذا الطريق.
من خلال كتب الرحالة والجغرافيين عبر مختلف الفترات التاريخية، قريبة من أشير، وهي مدينة كبيرة من بنيان الروم، حدّدها زيري بن مناد أيضا فيها آثار قديمة، وهي مدينة حصينة في سفح جبل يسمى زكار، وأشجار هذا الجبل كله ريحان وينبعث من هذا الجبل عين خزارة عظيمة، ولمدينة مليانة مياه سائحة وأنهار وبساتين فيها جميع الفواكه، وهي من أخصب بلاد افريقية وأرخصها أسعارا، ومدينة مليانة مشرفة على فحوص واسعة وقرى كثيرة عامرة ومزارع واسعة وحولها قبائل كثيرة من البربر، ويشق تلك الفحوص نهر شلف، ومدينة قديمة أزلية فيها آثار أولية تسمى شلف، وإليها ينسب النهر الكبير.
ويذكر أحد الباحثين بأنّ هذه الأسماء المتشابهة توحي بأن أصلها لاتيني روماني، لكن اسمها يطلق على فرع من قبيلة بربرية في ناحية بني هندل جنوب الأصنام، في قصر بربري يحمل اسم قصر مليانة من قصور توات، وفي رأيه أن أصل الكلمة بربري، أما المؤرخ مارمول كريخال الذي عاش أواخر العصر الوسيط فقد سماها مليان، وأنها قديما سميت منيانة، ويرجع احد الباحثين اسم منيانة ومليانة على اعتبار النطق المحلي، في حين يرى آخر أنها مشتقة من ملآنة، لما في الناحية من خيرات.
وبما أن بلكين بن زيري مؤسسها، فمن المحتمل أن قبيلة مليانة من بني هندل الصنهاجية التي استقرت بالمنطقة سميت مليانة، أما على الأرجح فمليانة تنسب الى السهل الخصب لواد بوتان، أين تقع خميس مليانة حاليا، بحيث تفيد بعض المصادر التاريخية أن عائلة رومانية كانت تحتل هذه المنطقة تدعى مانليا اذ في سنة 1849م اكتشف نصب تذكاري يحمل هذا الاسم اللاتيني مانيا، ويجزم أحد الباحثين بعد بحث وضبط وتحديد ان لفظ مليانة مختلف على اختلاف الروايات، لكن رغم ذلك، يمكن الركون إلى القول إن أصل مليانة لاتيني روماني، محرف إلى مليانة الحالية.
توفّرت مدينة مليانة خلال العصر الوسيط على مؤهلات اقتصادية هامة، نظرا لاهتمامات الجغرافيين والرحالة التي اتجهت نحو الجوانب الطبيعية والاقتصادية والنشاطات المختلفة للسكان، فإننا نجد الأوصاف التي وضعتها هذه المصادر لمدينة مليانة، تكاد تتركز على الجانب الاقتصادي عموما، وعلى زراعة ومصادر المياه بوجه خاص، حيث وجدت بها آبار وأنهار تطحن عليها الارحاء”، كما أن لها حظ من نهر الشلف.
أما جبل زكار المحيط بها، فهو مليء بالعيون ووجدت بها مزارع كثيرة خصبة، وهي ذات أشجار وجناتها تسقى من نهر شلف وهذه المقومات أدت إلى تنوع النشاطات الاقتصادية فيها.
الزّراعــــــــــة:
اتّفقت جميع الكتب الجغرافية وكتب الرحلة على أن مدينة مليانة خلال العصر الوسيط كانت مدينة فلاحية بالدرجة الأولى، وهذا راجع الى خصوبة الأراضي الفلاحية التابعة لها، حيث غالبا ما تصفها هذه المصادر بالبلدة الخصبة . وعلى أنها حسنة كثيرة الخيرات وافرة الغلات، مشهورة بالحسن والطيب وكثرة الأشجار وتدفق المياه ويذكر صاحب الروض المعطار في حديثه عن تلمسان، اسم أحدا اوديتها فيقول: “تلمسان قاعدة شمال إفريقيا، وحد الشمال من واد يسمى مجمع وهو في نصف الطريق من مدينة مليانة إلى أول بلاد تازا، هذا ما جعل سكانها يشغلون الفلاحة.
إنّ هذه المؤهلات انعكست إيجابا على الزراعة فكثرت المنتجات وكان مردودها وفيرا، وسهلها الكبير عرف بإنتاجه الفلاحي الغزير، كانت مليانة غنية بأشجار الجوز، حتى أصبح الجوز لا يباع ولا يشترى، ووزع بها التين والحبوب بأنواعها مختلفة.
وعلى الرغم ممّا أشارت إليه كتب الجغرافيا من وفرة المياه وتنوع مصادر بمدينة مليانة، لكن الملاحظ أن هذه المصادر قد بخلت علينا بتوضيح الكيفية التي من خلالها يتم استغلال هذه المياه والطريقة المستخدمة لسقي الأراضي الزراعية، هل كانت عن طريق قنوات مغلقة أو سواقي مكشوفة؟ بالإضافة إلى استغلال جريان الأودية والأنهار في طحن الحبوب، والكيفية التي تتم بها هذه العملية، واكتفت بالإشارة إلى وجود طواحين، ما عدا الأنهار التي تشق هذه المدينة. وبالتالي فإن الكتابات الجغرافية، اكتفت بتعديد مصادر المياه التي تستفيد منها الزراعة وانتقلت مباشرة إلى تعداد المحاصيل الزراعية التي تشتهر بها مدينة مليانة
وتدل المعلومات التي أوردتها كتب الجغرافيا على أن بلاد شمال إفريقيا عموما، هي بلاد ذات إنتاج زراعي وافر، تتنوع فيها المحاصيل الزراعية من منطقة إلى أخرى، ولعل مدينة مليانة لا تخرج عن هذا الإطار فهي إضافة على أنها كثيرة البساتين والمزارع، تتنوع فيها المحاصيل، وكما أوضحته مصادر الجغرافية على أنها اشتهرت بإنتاج فواكه والحبوب.
الحرف:
بالرغم ممّا أوضحته كتب الجغرافيا من غنى هذه المدينة من الناحية الزراعية إلا أنها تبخل علينا بإيرادات معلومات تتعلق بالجانب الحرفي أو التجاري، والأكيد أن الكثير من موارد هذه المدينة تستعمل كمادة أولية في العديد من الحرف، لم يقتصر سكان المدينة مليانة على زراعة فقط بل زاول بعضهم مجموعة من الحرف وصناعات فمارسوا صناعة النسيج والخراطة، وصنعوا الأواني الخشبية، لتوفر مادتها الأولية المتمثلة في الغابات الكثيفة المحيطة بالمدينة بقول الحسن الوزان: “يكاد يكون سكانها كلهم صناعا، نساجين أو خراطين، ويصنع هؤلاء أواني من خشب وهي نفس الحرف التي أوردها مارمول كريخال خلال وصفه لسكان مدينة، قائلا: “ ومعظمهم من صناع البوخ، والسروج، ومن سكانها خراطون يصنعون أوعية خشبية للشراب يقبل الناس على اقتنائها.
التّجـــــــــــارة:
ازدهار النشاط الزراعي والصناعي أدى إلى ازدهار التجارة، هذا ما أظهرته النصوص الجغرافية والرحلية، كيف أن مدينة مليانة تقع في طريق الرحلة والتجارة من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق حيث تشكلت خلال العصر الوسيط إحدى المحطات الهامة التي تستوقف الرحالة خصوصا عند أداء فريضة الحج، والأكيد ان المدينة تستفيد تجاريا من هذا النوع من الرحالات، وغالبا ما يتوقف عندها الحجاج للتزويد بالمؤونة. وهذا ما تؤكده كتب المسالك والممالك، مثل كتابات: ابن حوقل والبكري والإدريسي التي وضعت مدينة مليانة كمرحلة من مراحل أهم الطرق الرابطة بين المدن”، فوجد بالمدينة سوقا عرفت فيها مختلف المنتجات، وقد وفد إليه سكان البلدان المجاورة لبيع مختلف منتوجاتهم، أو اقتناء المنتجات المحلية لمليانة، عرف هذا السوق باسم سوق جامعة. 2 وكانت تعقد يوميا لكثرة الوافدين عليها وكثرة الوافدين على سوقها وزيادة النشاط التجاري، أدى الى تأسيس أسواق بالمدن المجاورة التي ذكرتها لنا المصادر الجغرافية، كسوق ريغة الذي كان يعقد كل جمعة وسوق كران؟ وأسواق حصن كزمانة.
ثم ما يمكن استنتاجه عن التجارة والطرق بهذه البلاد، وذلك بالرجوع إلى الكتابات الجغرافية، أن هذه المدينة باعتبارها جزءا من إقليم المغرب الأوسط، تعد ممرا يمر ما بين افريقية والمغرب الأقصى، وفي نفس الوقت يصل المناطق الشرقية مثل قسنطينة وبجاية بالمناطق الغربية مثل تاهرت وتلمسان وهنا تعتبر كتب المسالك والممالك هي المعول عليها في هذا الجانب.وعلى الرغم من أهمية موقع المدينة حسبما أوضحته النصوص الجغرافية والرحلية، إلا انها تبخل علينا بالتفاصيل الخاصة بأنواع السلع المتبادلة بأسواق المدينة، وعن كيفية تنظيمها، واكتفت الإشارة إلى أن بمدينة مليانة سوق جامعة وهو ما ذكره البكري وأسعارها رخيصة، حسبما أشار إليه صاحب كتاب الاستبصار.
الجانب الاجتماعي:
لم تسعفنا المصادر الجغرافية والرحلية في الحديث عن عناصر البشرية التي استقرت بمدينة مليانة، سوى بعض الإشارات على غرار البكري الذي يقول : “وهي عامرة أهلة” ونفس الشيء وافقه عليه صاحب الاستبصار بقوله: “ومدينة مليانة مشرفة على فحوص واسعة وقرى كثيرة عامرة.. وحولها قبائل كثيرة من البربر، وفي هذا الصدد الحميري يذكر قبيلة بني وازيفن الموجودة في مليانة لقوله: وهي عامرة ومشرفة على جميع ذلك الفحص الذي فيه بنو وازيفن وغيرهم وهي عامرة آهلة، وبالعودة إلى النص المهم المصدر متأخر بقوله :« فيه أن معظم سكان المدينة كانوا من زواوة”.

ختاما..

في هذا المقام، ننبّه أنّ البحث في تاريخ مليانة في العصر الوسيط يحتاج جهدا كبيرا للوصول إلى المصادر على شحها، فكانت دراستنا فاتحة للبحث في التاريخ المحلي، واستكماله مستقبلا في جوانبه الخفية بعمق للوصول إلى الحقيقة العلمية خاصة جانبها الأثري. وقد توصلنا إلى جملة من النتائج نوجزها في النقاط التالية:
كتب مصادر الرحلة والجغرافيا كانت هي المصادر الرئيسية التي استندنا إليها في التطرق لتاريخ مدينة مليانة خاصة أن الدراسات الحضارية كانت مهمشة في البحث التاريخي.
وقد تميزت مدينة مليانة بموقعها الجغرافي الطبيعي الحصين الذي أهلها بان تحتل مكانة مهمة في شمال إفريقيا، إضافة إلى اعتبارها محورا رئيسيا في بناء القوة العسكرية الصنهاجية وقد شكلت كذلك إحدى القواعد الخلفية التي استند إليها كل من الفاطميين والحماديين، فيما بعدهم في حماية ظهر الدولة. إضافة إلى الموقع الاستراتيجي الذي حتم على حكام مدينة مليانة، إعادة تجديد بنائها. وقد احتلت المكانة الاقتصادية لمدينة مليانة، نقطة بارزة في تاريخ هذه المدينة باعتبارها توفرت على العديد من المقومات الطبيعية والبشرية ساهمت في بروز المدينة اقتصاديا على غرار توفرها على الأراضي الخصبة التي ساعدت على زراعة الحبوب إضافة إلى الثروة الحيوانية وتوفرها على مصادر المياه ساهم بقسط وافر في رخاء الحياة في هاته المدينة.
مدينة مليانة عرفت العديد من الأجناس والفئات التي سكنتها على غرار السكان الأصليين، إضافة إلى الوافدين من الأندلسيين وما حملوه معهم من تجارب ليسهموا في توسيع المدينة كما سكنتها أجناس أخرى.
أما العمارة في مدينة مليانة فقد تنوعت إلى عمائر دينية وعسكرية فهذا يدل على أن مدينة مليانة، عرفت عهدا زاخرا في الجانب العمران خاصة بعد تجديد المدينة عدة مرات، فتنمو العمارة المليانية، ويقابلها ازدهار في الثقافة والعلم، حيث نجد في كتب التراجم والطبقات تذكر من العلماء ومدينة مليانة الذين نبغوا في العلوم على غرار الفقه واللغة العربية.
وقد عرفت نهضة حضارية بامتياز في مختلف الجوانب: السياسية والاقتصادية الثقافية، فأعطت بذلك نموذج للمدينة الحضارية، ونوصي الباحثين والدارسين بضرورة البحث والتنقيب في التاريخ الحضاري للمدن خاصة مدينة مليانة التي لا تزال بحاجة إلى الدراسة، خاصة في جانبها الاقتصادي والاجتماعي الذي يبقى مغيبا خاصة مع التهميش الذي طالها من المصادر التاريخية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19748

العدد 19748

الإثنين 14 أفريل 2025
العدد 19747

العدد 19747

الأحد 13 أفريل 2025
العدد 19746

العدد 19746

السبت 12 أفريل 2025
العدد 19745

العدد 19745

الجمعة 11 أفريل 2025