النجاح، السعادة والرخاء

أولياء يبكون أبناء مصيرهـم مجهول في بحــر غادر

استطلاع: كلواز فتيحة

أحلام يقظة تتحطم على ضفاف شواطئ أوروبا الجنوبية

بحثا عن جنّة موعودة وفي ظلام الليل الحالك يركبون قوارب الموت ليعبروا المتوسط متوجّهين نحو حلم كبير زاده الانفتاح التكنولوجي سحرا وجمالا، رجال ونساء وأطفال رموا كل حياتهم جانبا ليدخلوا أخرى جديدة مكان ميلادها سواحل أوروبا الجنوبية سواء مالطية، إيطالية، فرنسية أو إسبانية، وبالرغم من اختلاف ظروف اختيارهم رصيف الموت لإنقاذ ما تبقى من حياتهم، يشتركون جميعا في حالة يأس تسيطر على جوارحهم لدرجة أنهم لا يجدون حلاوة العيش في مجتمع ساهم بشكل كبير في استحداث تمرد نفسي لا يشبعه سوى اقتلاع الذات من جذورها.

بين هارب من وسم اجتماعي أصبح عائقا أمام تحقيق أحلامه على أرض الوطن، وبين باحث عن خلطة نجاح في دار فقد الإنسان داخلها جوهره وفطرته، يقبل «الحراقة» عند وصولهم إلى هناك العيش في ظلام دامس لعدم امتلاكهم لأوراق ثبوتية، فيما يضطر البعض منهم إلى احتراف السرقة لتأمين لقيمات تسد الرمق، أو حتى الانغماس في حياة لا علاقة لها بالقيم والأخلاق التي تربى عليها، ليصطدم جميعهم بواقع مر يجعل من الجنة الموعودة مفقودة لا وجود لها على أرض الحقيقة وأن أوروبا تشبه أسطورة «إلدورادوا» مدينة الذهب المفقودة.
بتفاصيل مؤلمة، تحمل «الشعب ويكاند» مصباحا كاشفا لتنقل لكم طريق البحر المظلمة يتعلق المبحرون فيه ببصيص أمل ينطفئ نوره على شواطئ ضفة تنزع قناع الإنسانية بمجرد إمساكها بهم، لترميهم في محتشدات في انتظار تقرير مصيرهم.
سراب يفضحه واقع مر  
وحيد العائد من فرنسا بعد أن ذهب إليها وعاد منها «حراقا»، يروي لـ «الشعب ويكاند» ظروف ركوبه قوارب الموت نحو الحلم، حيث قال:» عندما أغلقت في وجهي كل الأبواب ووجدت نفسي انغمس رويدا رويدا في بيع الأقراص المهلوسة وعالم الإدمان، قررت أن كل المال الذي أجنيه من هذه التجارة سأجمعه من أجل الحرقة إلى أوروبا وكانت فرنسا خياري الأول لأن أخي مقيم في مرسيليا، وبعد ثلاثة أشهر جمعت المبلغ كله وكان علي الاستعداد للذهاب، كنا نتواصل عبر الفضاء الأزرق، وبالفعل حددنا موعد الذهاب، فما كان منا سوى حمل حقيبة ظهر صغيرة خفيفة الحمولة، حتى نستطيع التحرك بحرية في حالة اصطدامنا بحراس السواحل.»
أتذكر جوان الماضي جيدا، فمن شاطئ «لافريقاد» ببرج البحري انطلق القارب الذي حملني وخمسة شباب آخرين متجهين نحو أوروبا بحثا عن حياة تعرفنا على تفاصيلها في الأفلام والمسلسلات، طُلب منا إطفاء الهاتف النقال وعدم إشعال السجائر إلى حين الخروج من الحدود البحرية الجزائرية خوفا من خفر السواحل، فظلام دامس وشعلة سيجارة بإمكانها كشفنا لهم ما يسهل عملية إعادتنا إلى الجزائر، وبعد ساعة طلب منا فتح الهواتف لخمسة دقائق فقط خوفا من تحديد مكاننا، كان من المفروض بلوغ إسبانيا في ثلاث أو أربع ساعات.»
 «لكن دوامة بحرية جعلتنا ندور في نفس المكان لـ12 ساعة ذقنا فيها الأمرين، خوفا من الموت غرقا بعيدا عن العائلة، في الحقيقة ندمت على ذهابي في «البوطي» لكن وبعد خروجنا منها حمدت الله وتمنيت أن نصل إلى مرسيليا دون مشاكل، لكن الاضطراب الجوي حول وجهتنا إلى إسبانيا، قبل الوصول إلى شواطئها وخوفا من حراس السواحل قررت الذهاب سباحة إلى الشاطئ، وبالفعل نزلت إلى البحر، وسبحت لـ20 كم واستطعت تفادي الحراس بعد اختلاطي مع المصطافين بينما أصدقائي فقد تم الإمساك بهم قبل وصولهم إلى الشاطئ، ما جعلني الناجح الوحيد في الوصول إلى الهدف.»
ومن إسبانيا اتجهت إلى فرنسا وهناك التقيت أخي الذي وجدته في حالة مزرية اضطر فيها إلى ممارسة أعمال هالتني لدرجة تمنيت عودتي إلى الجزائر، بالفعل وجدت نفسي مرة أخرى أمام مجتمع لا يرحم خاصة أصحاب السوابق العدلية، فكلمة بدء حياة جديدة خارج السجن غير موجودة في قاموس مجتمع يضع أمثالي على الهامش، ولولا والدتي التي تعاني بسبب المرض لركبت «البوطي» مرة أخرى لكن لبناء حياة بعيدة عن تلك التي يعيشها أخي.»
وحيدي رحل بلا عودة
انتظر والده عشرة أيام كاملة ليعلم أن ابنه الوحيد «حرق» إلى إسبانيا، فبعد أن أخبره أنه ذاهب لزيارة جدته بالمسيلة، انقطعت أخباره عن والده كمال الذي استنفد كل الطرق لمعرفة مصيره ظنا منه أنه تعرض لحادث ما منع اتصاله به، لكن وفي اليوم الحادي عشر من اختفائه اتصل به رجل قال أنه من طرف ابنه الموجود بإسبانيا وأنه سيتصل به لاحقا عند توفر الظروف الملائمة.
وبالفعل اتصل مروان بعد عدة أيام بوالده كمال الذي أنّبه بسبب ذهابه المفاجئ دون سابق إنذار إلى إسبانيا، حيث قال:» عند سماعي لصوت ابني شعرت أنني ولدت من جديد خاصة وأن زوجتي أصيبت بانهيار عصبي بعد علمها بخروج ابنها في قوارب الموت متجها إلى إسبانيا، كان أول ما قلته له لماذا؟، فقد كان الإبن المدلل للعائلة فهو الذكر الوحيد وسط أربع بنات، كان حلمي الذي لم يتحقق ولن يتحقق فبعد ذهابه بصفة غير شرعية لا أظن أنه يستطيع تكوين نفسه أو أن «يدير التاويل» خاصة وأن الدول الأوربية وضعت قوانين صارمة لمواجهة الهجرة غير الشرعية.»
وأضاف قائلا:» أخبرني أنه وأصدقاءه تشاركوا لشراء قارب بمحرك بـ800 ألف دينار، كل واحد منهم دفع 200 ألف دينار، عندما علمت بالأمر أدركت سبب بيعه لدراجته النارية قبل أسبوع من رحيله، أعادت مكالمته «الروح» إلى جسدي فعلى الأقل أيقنت أنه حي يرزق، فأقسى ما يعيشه الوالدان عند معرفتهم بهجرة أبنائهم غير الشرعية هو التفكير في أنه مات غرقا بعيدا عن أهله، وأنه مات بلا قبر يزوره أهله للترحم عليه.»
هي الظروف الاجتماعية والمستقبل المجهول جعلاه يظن أن الجنة موجودة وراء ضفة البحر المتوسط، وصف كمال «ما هالني في الأمر أن ابني برر ما فعله بأنه كقوم سيدنا موسى شقوا البحر إلى أرض مصر بحثا عن «المن» و»السلوى» مقارنة غريبة ولا أساس لها من الصحة، فهؤلاء هربوا من بطش فرعون وجنوده أما ابني وأمثاله فلم يستطيعوا شق حياتهم بتذليل الصعاب والعقبات زادها تعاظم خيبة الأمل بسبب الانغماس في عالم افتراضي جميل، فالفشل المعنوي وحالة الإحباط تلك صورت ورسمت لهم جنة لن يجدوا منها شيئا عندما تطأ أقدامهم الضفة الأخرى.»
وعن زوجته قال كمال:» أصيبت بانهيار عصبي استدعى نقلها إلى المستشفى، ولولا الأدوية التي تتناولها لكانت جُنت وفقدت عقلها، فمروان هو قُرة عينها كانت تستعد لتزويجه لكن أحلامها ذهبت هباء منثورا بسبب إقدام ابنها على مغامرة غير محمودة العواقب، ترقد في فراشها لأكثر من شهر تنتظر عودة صغيرها الذي تجاوز سنه الـ 22 سنة، بينما هو يعيش حياة الظلام خوفا من القبض عليه وإعادته إلى الجزائر.»
لكن أكثر ما كسر ظهرها حسب كمال هو إقدام مروان على سرقة مجوهرات أخته من بيتها، وهو السبب وراء طلاقها وتخلي زوجها عنها، فقد قدرت المصوغات المسروقة بـ 500 ألف دينار، وهو الفعل الذي يعتبره كمال لا يغتفر لأن مروان حطم حياته وحياة أمه وأخته من أجل سراب لا وجود له على أرض الواقع.
تذكرة نحو المجهول 
جميل، شاب لا يتجاوز سنه الـ 18 سنة حلم بجنة بحث عنها كثيرا في محيطه ولم يجدها، جنة هدم أسوارها أب لم يتحمل مسؤولية خطأ كان جميل نتيجته الحتمية، فما كان من والدته سوى إعطائه لجده وإخباره بأنه ابن ولده الذي فر إلى فرنسا، أمسكه الجد وسجله في الدفتر العائلي الذي جعل من جميل أخا لوالده وابنا لجده، مع مرور السنوات اكتشف الاعمام الصغار وجميل السر المدفون بين صفحات الدفتر الصغير، ما وضعه في خانة المنبوذين والمغضوب عليهم اجتماعيا وهو ما حول حياته إلى جحيم حقيقي.
فشله الدراسي والإدمان أرغماه على التفكير في الطريقة التي تمنع عنه الإهانة والرفض فبالرغم من حب جده له واعتنائه به إلا أنه عجز عن إبعاد سكاكين الإهانة عن حفيده، لذلك وجد نفسه مضطرا للرضوخ لطلبه في الذهاب إلى الضفة الأخرى عله يجد من يقدره بعيدا عن «وسم» يطارده أو لنقل أنه يريد البحث عن والده الشرعي.
وبالفعل، بعد شهر رمضان الفارط طلب منه حفيده مبلغا من المال ادعى أنه سيشتري به بعض السلع ليبيعها في أحد الأسواق الشعبية، فما كان من الجد المسكين سوى قبول إعطائه 400 ألف دينار، لكنه وبعد أسبوع اختفى حفيده حتى ظن أنه هرب من المنزل، وبعد رحلة بحث ماراطونية أخبره أصدقاؤه المقربين أنه عبر إلى إسبانيا في قوارب «الحراقة»، وعلم أن المبلغ كان مساهمة كل واحد ممّن عبروا معه البحر إلى إسبانيا من أجل شراء قارب ومحركين حيث يبلغ المبلغ الإجمالي 1400ألف دينار، ليدرك الجد أن صغيره لم يهرب من المنزل بل من المجتمع كله.
صدم الجد بالخبر الصاعق خاصة وأن جميل ما يزال صغيرا بل هو طفل لم يبلغ سن الرشد بعد، ..حمّل الجد نفسه مسؤولية ما يحدث لحفيده لأنه أب الرجل الذي تخلى عن فلذة كبده وهو لم يولد بعد، حمّل نفسه المسؤولية لأنه عجز عن حمايته من مجتمع يضع أمثال جميل على الهامش ولا يعترف بعضويتهم فيه، حمّل نفسه المسؤولية لأنه أعطاه المبلغ دون إصراره على معرفة ما فعل به أو أيّ سلع اشتراها لتجارته.
لكنه، في المقابل، لم يفقد الأمل في عودته أو على الأقل في أن جميل حيّ يرزق، ففي كل مرة يسمع عن خروج قوارب الحراقة يطلب منهم إن التقوا جميل إخباره بأن جده ينتظر اتصالا منه، ... يجلس كل يوم على شاطئ «جونبار» ببلدية المرسى ينظر إلى بحر تحول في السنوات الأخيرة إلى طريق النجاة لشباب فقدوا الأمل في الحياة الكريمة وسط أهلهم ومجتمعهم، بحر رغم هيبته ورهبته استطاع إعطاء شبابنا أملا خادعا في تحقيق أحلام «يقظة» في الضفة الأخرى.
ضفة تنامت فيها ظاهرة الإسلاموفوبيا جعلت المسلمين والجنسيات غير الأوروبية منبوذة وغير مرغوب فيها حتى وصل الأمر ببعض الدول إلى إشهار العنصرية علانية ورفض الآخر في قوانينها، ببناء محتشدات يجمع فيها «الحراقة» في ظروف إنسانية صعبة» لم يروا عشرها في وطنهم الأم.
حجج واهية
لا يمكن إنكار الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تمر بها الجزائر، لكن لا يمكن أيضا بأيّ حال من الأحوال قبول اتخاذها ذريعة لركوب قوارب الموت، فالوطن أم وأب أضناهما الحزن لفراق ابن أراد الجنة بعيدا عنهما، الوطن حب لا مصلحة فيه ولا ربح ولا خسارة، الوطن تبنيه سواعد أبنائه وإلا سيكون لقمة سائغة في فم هؤلاء اللذين يتصنعون الإنسانية والحضارة، الوطن لم ولن يكون معادلة حسابية مضبوطة وإلا لما حمل المجاهدون السلاح ضد مستعمر فشل في إقناع «لي زانديجان» البسطاء أنه يحمل مشروعا حضاريا لهم، علينا أن نعي أنّ الجزائر التي يفر منها، اليوم، أبناؤها ما زال المستعمر يبكيها دما ويسميها «الجزائر ..الجنة المفقودة».

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024