في ذكـرى حـضور إحـسـان عبّاس..

لـكَ الــقلب أيهـا الـغــزال

بقلم: المتوكل طه

أدخل بمعيّة أستاذي ابراهيم السعافين إلى بيت الراعي شيخ المثقفين والمُحقّقين العرب! كانت جدرانه مغطاة بالكتب!وأثاثه قليل لامع!والراعي يحتضن ضيوفه كأنّهم من صلبه. هل هذا هو المحقّق المثقّف الناقد الكاتب الموسوعي، الذي صار سقفاً عالياً لمشتغلي الثقافة؟ نعم إنه هو ابن حيفا! كيف لا، وقد شرّفني يوم حضر نقاش رسالتي عن ابراهيم طوقان للحصول على الماجستير، من جامعة اليرموك!

كان عبد الوهاب البياتي الشاعر الكبير الصديق، ورئيس وأعضاء رابطة الكُتّاب الأردنيين، وأساتذتي في الجامعة؛ السعافين ويوسف بكّار وحسني محمود وعفيف عبد الرحمن وعبد القادر الرباعي ونبيل حداد والعتوم والمومني، وكانت فدوى طوقان وجعفر ابن ابراهيم طوقان ورئيس الجامعة، وجمْعٌ غفير.. لكنّ الجميع كان ينظر إلى إحسان عبّاس، ليقرأ ملامحه المُطمئنّة. وكيف سأتملّى، وأنا في حضرته الطاغية، خطبَ الشهيد عز الدين القسّام، في كلماته، عندما كان جامع الاستقلال يرتجّ من تصادي الحروف المشتعلة في حيفا! وهل أتجرّأ لأستحثّه كي يخبرنا عنها، ويواصل الكلام الرائق الماتع العالي ليأتي على ذكر أستاذه تقيّ الدين النبهانيّ المنتبه؟!

لكَ الراوي والرواية والحكاية، ولكَ الحروف، من الهمزة وكلّ أخواتها، ولك الدروب والطرق والحنين والنوستالجيا واللهفة والشغف وقشعريرة الانتظار ورعشة العناق. ولك الشِعر والمنبر والخيل والليل، ولك الأرض جميعاً.. ولك القلب.

كأنّك هنا، في فلسطين، حولنا، تمسح عن الليل الحليب الأسود الذي دلحه ملاك رضيع حينما دوّى القصف البعيد، في عين غزال، أو أنّني لم أتذوّق بعد خبز الملائكة المسافرين، وأكاد أشرب دم الرمّانة التي تفلّعت وانفرطت ولم يتبق غير دبغة الأرجوان على قميص الشهيد، ولم يجد مَن تمزّقه، ذلك أنني لست نبيّاً وإنما رجل يجلس على مقعد المحطّة ولا ينتظر أحداً. وبالمناسبة، فإن الذي مزّق قميص الشهيد، كانت قنبلة عمياء من فوّهة مدفع يرطن بالانجليزية العنصرية.

أنا الآن في بَهْوِ الكشْف أتلمّس خطواتي على بساط نورك الكاشف العارف، فتأخذني فضاءات السطوع الباهر، وأسلك أزقّة قلبي، فأجد بلدة جبليةً، كأنها غابة بحريّة، تأخذني إلى تلافيفها، وأتماهى مع حفيفها فأشتعل بالمِسْك، وأصحو فإذا بجدائل على فرسٍ تقدح المسافات وتنزُّ أعرافها بالعسل المالح، ونثار فضتها يتلألأ على الأعشاش، وتوقظني الزقزقة فأجدك كأنك المسيح، لكن يديك تصبان شموساً صغيرة أو قناديل من فجرٍ فتيّ.

ولعلّه تمتم: سامح الله الشِعر، شاب رأسي وقلبه طفل.

عندما كنت مع أغنامي، سمعتُ النّحلةَ تلْحف على البرعم: افتحْ فَمك!

إلى أين تنظر هذه المستوحشة، أعني حيفا، ولا شيء خارجها! لقد اتسعت بكلّ ذرات الهيولى وفاضت أبراجاً من كلامٍ سماوي، وأدارت ظهرها، كأنّ ما فاتها ليس أكثر من حلمٍ سيّئ..وها هي تبشّر كالنجمة المذنّبة بولادة نبيٍّ جديد لا أب له ولا أم سوى ذلك القلب الذي مضغته الساحرة، لكنّه أكثر مرارةً من أن يروق لها، وما زال القلب بين الأضراس.

أنا المهزوم الذي انتصرّ! لأنّ حكمته تقول: أفضل وسيلة لمقاومة الجَمال هي الاستسلام له. بهذا ألقيت بعيداً عني كلّ ما يصدأ، وجعلت قلبي خوذتي؛ فانكشف نبضي وأصبح سرّي علنياً تأكل الطيرُ منه وتلقيه أينما شاءت؛ فتنبت الأدغال بأزرارها الثلجية وورودها القانية.. وثمّة ناي يتهادى فيحزُّ قلبي ليتساقط بين قدميّ، لكني لن أرفع الراية البيضاء؛ لأنّ صاحبة الناي أشعرها تنفث صفيرها من فمي، ربما تقمّصتني، وحتى لا تجرح قامتي ادّعت أنني احتللت أسوارها الكامنة خلف ذاك الغيم الصلد، الذي تحدّثت عنه الحكايات والجدّات..ويبدو لي أنّها أخذت من “غربة الراعي” بعض الحكايات الجارحة.

أغنية من فولاذ ترتطم بي، وأنا بكامل براءتي؛ فتمتلئ ثيابي بدم الجلّنار، ويبكي الكرز وحيداً في البعيد، وأسأل هل يمكن لأشياء القلب والروح أن تتحوّل، الآن، ونحن على بساطك، إلى طيرٍ أو جنيٍّ، مباشرةً .. هكذا! مثلما فعلوا بعرش بلقيس وهم في حضرة الملك النبيّ، لأُحضر لك تلك التلال المشرفة على الموج؟ مَن يأتينك بالمرمر الذي يربك؟ فيختفي الحليب ويرمي أقدامه ليقع الزلزال وتبدو الحقول مخفوقةً فيزداد دمع الكرز؟ ومن الذي زاوج بين القلب واللغة؟ لقد قصّر كثيراً لأنه لم يخترع ما يليق بالقول لك، وعزائي أنك تواصل غزْل عروق الذهب بينهما.

الضحك شقيق البكاء، وكلاهما في زنزانة القلب، وثمّة ضحك كميّ مجاني باذخ، وهناك ضحك أسود ساخر من النّفس، وهو أداة المغلوب على أمره، وأرى بينهما وجهاً يغذي البحر بالزبرجد ويطلق الطائرات الورقية الملوّنة صباح العيد، وثمّة فمٌ لو غَرْغَر في البحر لَفَقَد ملوحتَه... فلا تقرب الأزرق الرجراج.. على الرغم من غربتك القاتلة والمخذولة.

الآن أعرف لماذا بدت سماء الشمال، أندلس فلسطين، وكأنّ فرساً مرصّعةً بحليبها الأبلج تشقّ الغيوم فتحدث نهراً سماوياً يتنزّل من ضفافه لباء المشمش، ولماذا انسلّ من هنا قوسُ قزح كأنّه طفل هرب إلى حضن أمّه التلال، وويلي على الشرق..إنّه يتيم مثلي.

أنظر إلى اللوحة المعلّقة، في الأفق الغربيّ: يرجوني الغزال ويحذّرني الفهد.

الدخان مُدجّج بالوَهْم، لكنّه مفزوع كضمير القاتل..ولن ينتصر، ستهزمه اليمامة الشمالية، التي أخذت عن سليمان الملك، مصاحبة الرياح وفهم منطق الطير، ولكن احذر! هناك لغة كامنة لم يفككها أحد، وعادوا عن أسوارها مجروحين بالخيبة، لكن الحظّ تمتمة تلهج بأبجدية جديدة، الّلهم علّمنا إيّاها لندرك سيميا القصائد الطاغيات محبةً وظمأ.

بعد النكبة، مباشرةً، مرّ راعٍ آخر، فسمع قائلاً يقول :
المشهد ناقص في البلدة.. أين الغزال؟

يتكلّم المجتمعون، وأنا بينهم، لكنّ روحي في الشمال.
مَن يشتري ذاكرة النبع بتفاح النسيان؟

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024