ناهض سكانها السياسات الاستعمارية

الجبهة الجنوبية..طريق آمن لتسليح الثّورة التحريرية

إيمان كافي

 

لم تكن منطقة الجنوب بمنأى عن الأحداث والمراحل الفاصلة في سيرورة تكوين الأمة الجزائرية بالذود عن كينونتها، والحفاظ على وحدتها الترابية إبّان الفترة الاستعمارية، فمن المشاركة في المقاومات الشعبية من ثورة أولاد سيدي الشيخ وبوشوشة والناصر بن شهرة والشيخ بوعمامة ومقاومة تيديكلت وصولاً إلى مقاومة الهقار.

ناهض سكان الصحراء مختلف السياسات الاستعمارية عبر مراحل الاحتلال الفرنسي للجزائر الهادفة إلى التوغل والتجزئة والتقسيم، وعانوا طيلة فترة الاستعمار من الحكم العسكري الأكثر قمعاً واستبداداً، والذي لازم المنطقة حتى الاستقلال.
أكّد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة غرداية، الدكتور أحمد جعفري، أن مناضلو الجنوب سجّلوا حضورهم في مختلف اتجاهات وأحزاب الحركة الوطنية وبالأخص حزب الشعب الجزائري، وبعده حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في سبيل سعيهم لإبطال ممارسات الاستعمار السياسية والإدارية، مشيرا إلى أن الوثائق التاريخية والشهادات الحية حملت لنا انخراط بعض الشباب في المنظمة الخاصة الجناح السري العسكري لحزب الشعب منذ 1947م.
وذكر أنّ مناضلوها ساهموا في جلب الأسلحة والتدريب العسكري بين سنتي 1948-1950م وهذا بشهادات بعض قادتها من أمثال عصامي الطيب خراز، عبد الحميد مناني، أحمد ميلودي، إدريس حسين الذي إلتقى بن بلة سنة 1947، وكلّف بعملية التعبئة والتجنيد وكانت حدود بشار والوادي وبسكرة محطات أساسية في جلب السلاح ونقله للثوار في مختلف المناطق والولايات.
ومع اندلاع الثورة المباركة في الفاتح نوفمبر من سنة 1954، شارك بعض المناضلين منذ الانطلاقة الأولى بانخراطهم مع ثوار المناطق المستحدثة عشية اندلاع الثورة التحريرية خصوصاً المنطقة الأولى والمنطقة الخامسة في انتظار تنظيم وهيكلة ولاية خاصة بهم، ولئن أقرّ مؤتمر الصومام إقامة ولاية سادسة تضم منطقة الصحراء، فإنّ أغلب مناطق الجنوب الغربي للجزائر (آفلو، البيض، المشرية، عين الصفراء، الساورة، تندوف، تيميمون وتوات) ظلت تابعة تنظيميا وإداريا للولاية الخامسة وتمّت هيكلتها تحت مسمى المنطقة الثامنة، وقد تداول على قيادة هذه الأخيرة مجموعة من القادة والزعماء نذكر منهم الشهيد العقيد لطفي، سي عبد الغني، والمجاهد المناضل أحمد بلعيد المدعو «فرحات» وعلي بوعرفة، عمار عقبي المدعو «سي العقبي»...وغيرهم.
وأوضح الدكتور جعفري أن الإستراتيجية، التي اتّبعها جيش التحرير الوطني في البدايات الأولى للثورة في الجنوب الغربي هي العمل في أفواج صغيرة، قليلة العدد لتسهيل حركة العناصر وتنقلها ولإحداث عامل المفاجأة والمباغتة وإنهاك المستعمر، والحيلولة دون مواجهته في مناطق مكشوفة بعيداً عن المعارك المباشرة.
وقد أثمر هذا الأسلوب وأثبت نجاعته في كثير من الوقائع التي خاضها مجاهدو جيش التحرير الوطني في المنطقة، ومن تلك المعارك وأبرزها تمثيلاً لا حصراً معركة القعدة في جبال عمور، تكبّد المستعمر فيها خسائر فادحة قدّرت بمائة ضابط وسبعمائة جندي


وتدمير أكثر من ثمانين عربة عسكرية، ومعركة حاسي الصاكة (80 كلم شمال شرق تيميمون) في أكتوبر 1957، معركة حاسي غنبو (40 كلم شمال شرق زاوية الدباغ) في 21 نوفمبر 1957، معركة حاسي علي ديسمبر سنة 1957، معركة حاسي بوخلالة سنة 1958 و غيرها من المعارك التي شملت مختلف أراضي المنطقة الثامنة من جنوب لمنيعة إلى تيميمون، وأدرار وبشار وعين الصفراء والبيض وآفلو.
وأضاف في سياق حديثه أنّ الملاحظ أن النشاط الثوري للمنطقة اتسعت دائرته وزادت حدته منذ سنة 1956، ويعود ذلك أساسا إلى التنظيم والهيكلة التي شهدتها المنطقة من جهة، ومن جهة أخرى إبطال المخططات الاستعمارية لفصل الصحراء عن الجزائر، خاصة بعد اكتشاف المعادن الطبيعية والثروات الطاقوية، ولا شك أن درجة اليأس التي وصلتها فرنسا في بقاء ذرة أمل في الحفاظ على المنطقة هو ما دفعها إلى إقامة تلك الجرائم النووية في حق الإنسانية، والتي لم يسلم منها الحجر ولا الشجر ويدفع سكان المنطقة ضريبتها إلى اليوم.
غير أنّ تلك الجرائم - حسب الدكتور جعفري - لم تزد مجاهدي المنطقة سوى عزماً وإصرارا على قطع دابر كل ما له علاقة بالمستعمر بإبطال مخططاته الرامية، إلى فصل الصحراء في محاولة يائسة منه في استخدام الأرواني، قاضي تمبكتو آنذاك، إلاّ أنّ ردّ أعيان المنطقة وشيوخها كان واضحاً وجلياً وغير قابل لأي شكل من أشكال التنازل والمساومة.
لقد حمل مجاهدو جيش التحرير في المنطقة بعداً وطنياً وإقليمياً في اتحاد رؤيتهم وقيادة جيش الحدود آنذاك بقيادة العقيد هواري بومدين، الذي أصرّ على إقامة قاعدة خلفية للثورة في الجنوب عام 1960، تنتشر على الحدود النيجيرية والمالية عرفت باسم الجبهة الجنوبية المالية، وهي ثمرة جهود العقيد وأفكار وآمال صديق الثورة الجزائرية فراتنز فانون، كان هدفها إنهاك المستعمر وإيجاد منافذ جديدة لتوريد السلاح، وكسب الدعم والسند للثورة وكان من أبرز قادتها الشريف مساعدية، وبلهوشات.
وأبرز الباحث أنّ تاريخ الثورة التحريرية ناصع مشرف في كل شبر من هذا الوطن الغالي وقد كتب بدماء الشهداء ومعجزات الأبطال، قائلا: «حري بنا من مؤرخين وطلبة وباحثين أن نسعى جاهدين لجمع ما تبقى من الشهادات الحية لمن صنعوا الحدث أو من الثقات، الذين نقلوه عن الرواة اعترافا بالجميل وإقراراً لهم بالفضل، وهم في غنى عن ذلك عند ربهم يرزقون».

تدعيم الثّورة بالسّلاح أكبر خدمة قدّمتها المنطقة للثّورة

يرى أستاذ التاريخ الحديث بجامعة غرداية محمد السعيد بوبكر، أن منطقة الجنوب الشرقي عرفت نفس التطورات في تاريخ الجزائر خلال العهد الاستعماري، مثلما عرفته بقية المناطق كما كان لها حضور ومشاركة في مختلف المقاومات الشعبية.
ومن بين هذه الثورات، عرفت ثورة محمد بن عبد الله والتي بسببها دخل الفرنسيون إلى منطقة تقرت خلال سنة 1854، والذي كان يمتد نشاطه بين مناطق غرداية وورقلة وأوماش ببسكرة التي شهدت إحدى معاركها، إضافة إلى ثورة ناصر بن شهرة وبوشوشة الذي تمكن من تحرير مدينة تقرت سنة 1871 لمدة عام كامل من الوجود الفرنسي، إلى جانب ذلك لابد من الإشارة إلى أن هذه المنطقة قبل ذلك كانت أيّدت ثورة الأمير عبد القادر، والدليل على ذلك أن الأمير أرسل بعثة توجهت من مدينة الأغواط نحو تقرت قبل دخول الاستعمار الفرنسي.
شهدت المنطقة أيضا امتدادا لثروة المقراني والشيخ بوعمامة بغرادية وثورة الشيخ آمود أغ مختار في إيليزي، الذي كانت له معركة ضد الفرنسيين سنة 1881 في منطقة جانت أواخر القرن 19، وأوضح المتحدث أن منطقة الجنوب الشرقي واكبت مختلف مراحل الاستعمار الفرنسي بدليل أن كل منطقة دخلها الاستعمار، تكون إما قد عرفت ثورة كبيرة أو قامت بردة فعل كباقي المناطق على غرار ثورة الزعاطشة مثلا في بسكرة وثورة أحمد باي التي امتدت في هذه المناطق.
وأضاف أن هناك بعض القيادات من المنطقة، تمّ نفيهم إلى كاليدونيا الجديدة في 1871، كما أن هذه المناطق عرفت خلال فترة الحركة الوطنية مختلف التوجهات التي شكلت الحركة الوطنية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. ممّا يُذكر أن أهل منطقة الجنوب قدّموا تقريرا يوم 23 أكتوبر 1954 أسبوع قبل قيام الثورة حول مدى جاهزية المنطقة، إلا أنه نظرا لقلة التجهيز وشساعة المنطقة لم تصنف كمنطقة ثورية منفصلة عن بقية المناطق، فكان هذا هو التوجه الذي اتخذه قيادات الثورة. إلا أنه خلال شهر مارس 1956، قرّر الشهيد مصطفى بن بولعيد بالاتفاق مع المجاهد زياني عاشور تصنيف منطقة الجنوب الشرقي كمنطقة ثالثة تتبع منطقة الأوراس، بعد تقديم معطيات أدق عنها وتم اقتراح منطقة الجنوب منطقة ثورية لوحدها خلال عقد مؤتمر الصومام.
وعن أهمية هذه المنطقة في الثورة التحريرية أكد الأستاذ بوبكر أنها تكمن في كونها منطقة حدودية، وتشمل خطي موريس وشارل الذي يمتد إلى غاية جنوب ولاية تبسة، إضافة إلى السكة الحديدية مما جعل منها منفذا ومسارا مهما لتدعيم الثورة بالسلاح وقد كانت هذه أكبر خدمة قدمتها المنطقة للثورة، مشيرا إلى أن طبيعة هذه المنطقة المكشوفة ومناخها القاسي وشساعتها جعلت من قيادات الثورة تتخذ هذه الخصائص بعين الاعتبار، كما فضلت ضرورة تخفيف المعارك وإبعادها عن محيطها من أجل الحفاظ على هدوء المنطقة وللإبقاء عليها كمنفذ آمن لتمرير السلاح.
سجّلت المنطقة بعض المعارك في مناطق شمال بسكرة ومعركة هود شيكا التي توفي على إثرها الشهيد حمة لخضر بالوادي، ومعركة السخونة في منطقة تيقديدين، بالإضافة إلى معركة القصور التي توفي فيها الشهيد قتال ومعركة البرق ومعركة قرداش بتقرت.
شكّلت الإضرابات إشارات تعبيرا رافضا من طرف السكان لممارسات المستعمر، كما وقفت ضد المشاريع الاستعمارية على غرار استفتاء 1958، وشارك جزء من شباب هذه المناطق في ناحية الأوراس ومناطق أخرى متفرقة في عمليات الثورة التحريرية ضد المستعمر، حيث مثّلت مظاهرات 27 فبراير 1962 بورقلة و7 مارس بتقرت التي كانت الرافضة لفصل الصحراء، والتي تبعتها فيما بعد مظاهرات الطيبات في 13 مارس أكبر صفعة في وجه المستعمر الفرنسي.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024