أيّ ألمٍ هذا الذي نتحمّل، أيّ عذابٍ يُصبُّ في الفلسطيني صبّاً، أيّ قمم شاهقة للوجع تصلها أرواحنا المتعَبة، أيّ قهرٍ ذاك الذي يدوس على أجسادنا ويهرسها، أيّ آهات لا تقدر أن تبتعد عن الصدر، بل لم يسعفها الوقت الفاصل بين الصرخة والموت لتخرج.
إنّ ألمنا الفلسطينيُّ، حالة قصوى من قدرة البشر على التحمّل، ألمٌ جمع في جسدٍ واحدٍ الأسى والأنين والعذاب والوجع والمعاناة والتعب والشدّة والضيق، هذا الجسد الواحد يجمع مليوني جسدٍ متألّم في كيانٍ واحد اسمه (الفلسطيني)، ولو صار هذا الألم دولة لأسماه الناس دولة الألم الفلسطينية، بل جمهورية الألم الفلسطيني العظمى، ومع اشتداد الوبال يسمونه امبراطورية الألم الفلسطيني، كيان متكامل من بشرٍ ومدنٍ ودورٍ وطرقاتٍ وتاريخٍ وحكايات. بشرٍ؛ نسوا أن يعيشوا أو يعرفوا حتى معنى الحياة، وأطنان من المتفجّرات تسحق كلّ برعمٍ يظهر في الروح، ومن مدنٍ كلما علت، تغار منها الأيدلوجيات الغبية، تعطي أمراً لجنازيرها البربرية بأن تدهس عمرانها بسكانه، فتلك الأيدلوجيا التي صُمّمت عبر التاريخ لتبيد كلّ ما هو فلسطيني، هي التي اخترعت فنّ الإبادة بألمٍ لا يوصف، متفوّقة على أيديولوجيات الموت مرّةً واحدة.
إنّ ألمنا الفلسطيني، خلاصة كلّ آلام البشرية، ففيه انصهرت آلام البشر مع آلام الأنبياء، في داخل كلّ فلسطيني حشدٌ من أنبياءٍ يعذَّبون الآن، كلّ أصناف العذاب التي ذاقها الأنبياء تجتمع الآن فيه، حتى كاد الفلسطيني أن يكون رسولاً فصار شهيداً، تجتمع في الفلسطيني الآن، نار إبراهيم عليه السلام، ونار أصحاب الأخدود، وكلّ الأشواك التي رمتها حمّالة الحطب في طريق النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، بل وكلّ مآثر عذاب فرعون لموسى عليه السلام ومن آمن به، وفي الجسد الفلسطيني أصلابُ المبتورين من خلاف، وتتلاقى فيه دماء أشعياء وزكريا ويحيى وثلاثة وأربعين نبياً قتلتهم بنو إسرائيل من أول النهار في ساعة واحدة، ومائة وسبعون رجلاً حاولوا أمر من قتل الأنبياء داخلنا بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعاً.
يشقّ الجسد الفلسطيني الآن طريق الآلام حتى وصل إلى صلب المسيح، وفي شرايين هذا الفلسطيني سرى السمّ الذي حاول اليهود قتل محمد صلّى الله عليه وسلّم، به..
يا إلهي كم نحتمل ما لم يحتمله الأنبياء، عسى أن يأتي نصر يجمع نصر كلّ هؤلاء الأنبياء.
إنّ ألمنا الفلسطيني تحتلّه أيضاً آلام كلّ الكائنات التي زُجَّ بها في أتون الإبادة، كلّ هذا البشري، فازداد عدد الشهداء من البيوت والمدارس والمستشفيات والأسواق والأشجار والمزارع، بل سحلوا للهولوكوست الصهيوني كلّ ما هو فلسطيني من قصائد وتراثٍ وحكايا وتاريخ، في مقتلة اتصفت بالشمولية والتكاملية المدروسة، حيث فاقت على كلّ أنواع الآلام التي عرفتها الفلسفات والتراجيديات.
إنّ ألمنا الفلسطيني جعل من ثلاثية الميلاد والحياة والموت؛ تتمازج في حوارٍ لم تشهده البشرية مذ نفخ الله في الطين، ثلاثية تبدل أدوارها، فموت الفلسطيني يولد معه من أجل حياة لا يجدها، ومن موت الفلسطيني تولد الحياة، إنّها جدلية الألم حيث تتوقّف قوانين السبيية، ويبقى قانون الوجود يقاتل من أجل الوجود. الألم الفلسطيني، الجامع لكلّ آلام البشرية، أحال كلّ خلية في جسد أطفاله ونسائه ورجاله إلى كلمةٍ نائحة في قاموس الألم العظيم، لتولد فسيولوجيا جديدة لم يعهدها البشر في علم مسميات ووظائف الخلايا حين تحترق أو تُهرس أو تتحطّم أو تُفجّر، تعبنا يا الله فكلّ خليةٍ في جهازنا العصبي تصرخ، وقد وصلنا إلى ذروة ما خلق الله من آلام، حيث اختلطت الدماء بالدموع، والأشلاء بالأشلاء.
الألم الفلسطيني هنا لا ينتهي بالموت، بل يبدأ منه، كلّ آلام البشر يقتلها الموت، إلا الألم الفلسطيني فالموت يحييه في فلسفة مذهلة في فنّ البقاء، الموت يعيدنا للحياة. إنّ الألم الفلسطيني حين يصل إلى أقصى درجاته الممكنة، يستحيل إلى قوّة. إنّنا ننتظر بلهفةٍ ما ستصنع هذه القوّة الفينيقية الخارجة من رماد أجسادنا، وكيف ستحاور صرخات الثكالى وأنين فاقدي أطفالهم أشعّة الصبح البعيدة وهي تنزف، وننتظر بإيمانٍ مطلق كيف ستُجمع عزائم كلّ الأنبياء عبر التاريخ، وتنهض شمساً في ليلٍ تعب من الأنين والصراخ والعويل. طوبى لكَ أيّها الألم الفلسطيني، الألم الأعظم في تاريخ البشرية، والأكثر قدرة على إعادة الحياة حين ينتصر.